بسام ناصر

في مقابلته الأخيرة مع صحيفة اللوموند الفرنسية، قال رئيس حركة النهضة التونسية، الشيخ راشد الغنوشي في سياق إجابته عن أسباب تحوّل حركته إلى حزب سياسي: «لم يعد هناك أيّ مبرر لوجود إسلام سياسي في تونس»، وأضاف أن «مفهوم الإسلام السياسي تم تشويهه بسبب التطرف من طرف تنظيمي القاعدة والدولة».
وبجرأة بالغة أكد الغنوشي طبيعة المسار الجديد لحركته بقوله «نخرج من الإسلام السياسي لندخل في الديمقراطية الإسلامية، فنحن مسلمون ديمقراطيون، ولم نعد ندعو إلى الإسلام السياسي».
من يتابع توجهات حركة النهضة الحالية، يدرك أن ثمة تحولات جذرية تجتاح الحركة من داخلها، ويقف من خلال تصريحات رئيسها صاحب الحضور الطاغي في توجيه دفتها وضبط مسيرتها، على أن ثمة قفزات نوعية تنتقل معها الحركة من مرحلة سابقة إلى مراحل لاحقة فكراً وحركة.
من الواضح جداً أن نموذج التجربة التركية بزعامة الرئيس التركي أردوغان، تجربة ملهمة لحركة النهضة في تحولاتها ورسم سياساتها ومساراتها الجديدة، وعنوان تلك التحولات والسياسات الجديدة هو ما عبر عنه رئيسها بقوله «نخرج من الإسلام السياسي لندخل في الديمقراطية الإسلامية..».
التحول من «الإسلام السياسي» – بصرف النظر عن دقة المصطلح ومدى تعبيره عن الحالة – إلى الديمقراطية الإسلامية، يتطلب تفكيك المنظومة الفكرية الحاكمة والموجهة، والانعتاق من تلك التصورات المحددة لطبيعة المسارات، والانتقال إلى نسق آخر في التفكير والتدبير، يتقاطع مع النسق السابق، تماماً كما حدث مع أردوغان حين فارق شيخه وأستاذه نجم الدين أربكان، واختط لنفسه ومجموعته مساراً جديداً، كان له حضوره وفاعليته ونجاحاته في ما بعد.
طبيعة التحولات التي اجترحتها حركة النهضة تتماشى تماماً مع تنظيرات الشيخ راشد الغنوشي السابقة، فالرجل من بداياته أعلن عن اختياره الحر للمسار الديمقراطي، وصرح مراراً وتكراراً قبوله بالديمقراطية كخيار استراتيجي بلا قيود ولا شروط، مع قبوله التام بنتائج ذلك الخيار ومآلاته مهما كانت، وعن أي وجه أسفرت.
الغنوشي على خلاف كثير من الإسلاميين لم يضع في تأصيلاته التنظيرية أي قيود على الديمقراطية، وترك لها تحديد مساراتها ونتائجها بلا أغلال تفرض عليها من خارجها، ما يعني أن قناعته الفكرية بالديمقراطية كخيار استراتيجي قناعة جازمة، ما يعني التحرر من عقلية الاستئثار بالسلطة، واستغلالها لأغراض أيديولوجية، يتوسل بها إلى فرض الأفكار والرؤى بسيف القوة والسلطة.
وفي هذا السياق أوضح الغنوشي رؤيته لطبيعة النشاط السياسي والنشاط الديني، فهو بكل وضوح وصراحة أكد «ضرورة التمييز بين النشاطين، فالمسجد ليس مكاناً للنشاط السياسي، المسجد هو مكان يتجمع فيه العموم، وليس من المعقول استعماله بهدف استغلاله في أنشطة لحزب واحد، نريد أن يكون الدين أداة توحد التونسيين وليس سبباً في تفرقهم».
وأضاف: «لا نريد أن يكون إمام مسجد ما قائداً سياسياً، بل لا نريد أن يكون حتى عضواً في أي حزب كان، نريد حزباً يتناول المشكلات اليومية، ويناقش حياة الأسر والأشخاص، لا حزباً نتحدث فيه إلى هؤلاء الأشخاص والأسر والعائلات عن الآخرة وعن الجنة..».
إقدام حركة النهضة على فصل الديني عن السياسي، لا يتعلق بالجذر الفكري للقضية من حيث التصور الإسلامي بشموله لكل منهما، بل يتمحور حول فصل الصلاحيات والممارسات، لأن الذين يدمجون بينهما هم في المحصلة النهائية من جنس البشر الذين يعتريهم ما يعتري البشر، وليسوا أصحاب مسالك طهورية في ممارساتهم السياسية.
تبقى تجربة حركة النهضة في توجهاتها ومساراتها الجديدة، تجربة جديدة تشق طريقها رغم كل المحاذير والاعتراضات والاتهامات، فهل سيكتب لها النجاح كسابقتها في تركيا؟ قادم الأيام سيقدم الإجابة.