خليل العناني

تثير تقلبات السياسة الخارجية المصرية الكثير من الأسئلة حول ثوابت هذه السياسة ومحدداتها، ومدى ارتباطها بمصالح البلاد خاصة في مرحلة الفوران والتحولات التي تمرّ بها المنطقة العربية منذ خمسة أعوام.
وبوجه عام يمكن القول إن حالة «اللايقين» أصبحت هي الثابت الوحيد الذي يصوغ ويشكّل تحركات الفاعلين الإقليميين والدوليين، وذلك بعد تفجر الصراعات والنزاعات في أكثر من بؤرة عربية سواء شمالاً في سوريا والعراق، أو جنوباً في اليمن، أو شرقاً مع إيران، أو غرباً في ليبيا. وهي حالة تضع عقبات كثيرة أمام صانع السياسة الخارجية، وتضيّق حجم الخيارات المتاحة أمامه من أجل وضع سياسة ثابتة يمكنها تحقيق المصالح الوطنية.
اللعب على الحبال
لعل الملمح الأكثر بروزاً في السياسة الخارجية المصرية هو اتباع استراتيجية «اللعب على كل الحبال»، وهو أمر مرتبط بالأزمة العميقة التي يعيشها النظام الحالي الذي جاء بعد انقلاب الثالث من تموز 2013، التي تحولت إلى قيد مؤثر في صياغة سياسته الخارجية. ولعل هذا هو منبع التضارب والتخبط الذي تشهده هذه السياسة وذلك على نحو ما حدث مؤخراً في مجلس الأمن، حين صوّتت القاهرة على مشروعي قرارين متناقضين في نفس الوقت، أحدهما تقدّمت به روسيا والآخر فرنسا. 
وإذا أخذنا حالة العلاقة مع السعودية كمثال على تخبط السياسة الخارجية المصرية، ستبدو المسألة أكثر وضوحاً. فقد راهنت السعودية على نظام عبد الفتاح السيسي منذ أن قام بانقلابه قبل ثلاثة أعوام، ودعمته واستثمرت فيه سياسياً ومالياً ودبلوماسياً، ولكنها لم تحصد ثماراً حقيقية من وراء هذا الدعم. 
بل على العكس، فقد خذلها هذا النظام في أكثر من مناسبة. أولها في الملف السوري الذي يبدو جلياً وجود اختلاف جذري في رؤية كلا الطرفين (المصري والسعودي) في التعاطي معه. فبينما ترى الرياض أن نظام بشار الأسد هو جزء أصيل من الأزمة السورية، وبالتالي فلا حل من دون رحيل الأسد، فإن القاهرة ترى أن بقاء الأسد أمر أساسي في أي عملية انتقالية أو حل سياسي يتم فرضه، وهو ما يتناغم مع رؤية خصوم السعودية في المنطقة وأهمهم إيران. 
بل الأكثر من ذلك فإن ثمة شراكة استراتيجية واضحة بين دمشق والقاهرة بدأت بعد انقلاب تموز 2013، وتزداد متانة وقوة بمرور الوقت، والمؤشرات على ذلك كثيرة أهمها الدعم اللوجيستي والعسكري الذي تقدمه مصر لقوات الأسد، فضلاً عن التعاون الأمني والاستخباراتي المتزايد بين الطرفين، واستقبال القاهرة لوفود رسمية سورية كما حدث مع علي مملوك، رئيس دائرة الأمن الوطني السوري الذي استقبلته القاهرة قبل أسبوعين وتم تسريب زيارته للإعلام بشكل مقصود كرسالة للرياض.
ثانيها، ما يتعلق بالملف اليمني، والذي كشف ليس فقط خذلان القاهرة للرياض، وإنما أيضا تورطها وتواطؤها مع الطرف الآخر (الحوثيون وعلى عبد الله صالح)، فحسب تقارير نُشرت مؤخراً فإن مصر باعت زوارق حربية متطورة للحوثيين، وهو ما يُعد «انقلاباً» على السعودية التي تخوض حرباً ضروساً في اليمن تحت مظلة ما يُسمي «التحالف العربي». وثالثها، العلاقة بين القاهرة وطهران، التي انتقلت من مرحلة الدفء والتفاهم، إلى التقارب والتعاون طيلة العامين الأخيرين. 
لذا لم يكن مفاجئاً أن يشترط وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف على نظيره الأميركي جون كيري حضور وزير الخارجية المصري سامح شكري مباحثات «لوزان» بشأن القضية السورية، وذلك قبل أسبوعين بشكل أثار الكثير من الأسئلة حول عمق العلاقات الإيرانية المصرية في عهد السيسي.
دبلوماسية الابتزاز
منذ وصوله إلى السلطة قبل عامين، يتبع النظام الحالي في مصر ما يمكن أن نسميه «دبلوماسية الابتزاز» كأحد مبادئ رسم وتحديد سياسته الخارجية. وهي دبلوماسية تنطلق من الأزمة التي يعيشها النظام سياسياً واقتصادياً ويرفض الاعتراف بها.
وهنا يستخدم نظام السيسي كل الأدوات المتاحة من أجل الحصول على مكاسب مؤقتة يمكنها أن تزيد من عمره السياسي. وهو أمر يبدو واضحاً في محاولة النظام ابتزاز حلفائه الإقليميين من أجل تثبيت حكمه داخلياً. فهو قد ابتز المملكة العربية السعودية وحصل منها على دعم سياسي قبل ثلاثة أعوام، وكذلك على دعم اقتصادي غير مسبوق وصل إلى حوالى 30 مليار دولار، بين منح ومساعدات وقروض ميسرة ومساعدات نفطية واستثمارات، جعلته يطفو على السطح طيلة السنوات الثلاث الماضية.
ولكن هذا النظام أدار ظهره للرياض بعد أن حصل منها على ما يريد، وبعدما بدأ يستشعر أن السعودية تواجه أزمات اقتصادية بسبب تراجع أسعار النفط، وإستراتيجية تتمثل في الأزمة العميقة مع إيران. ويبدو أن نظام السيسي يعتاش على أزمات المنطقة ويحاول تقديم وعرض نفسه للاستخدام لمن يدفع أكثر. لذا فهو يحاول الآن البحث عن شركاء جدد قد يدعمونه اقتصادياً وسياسياً، كما هي الحال مع إيران وروسيا.
مخاطر كبيرة
إذا كان نظام السيسي يحاول الاستفادة بشكل انتهازي من تناقضات المصالح الإقليمية والدولية من أجل تعزيز مكاسبه، فإن ثمة مخاطر كثيرة يمكن أن تهدده على المدى المتوسط. 
ومن جهة ثانية، فإن التقلب والابتزاز يهددان مصالح مصر، كدولة وشعب، على المدى الطويل. فمن شأن ذلك أن يدفع الأطراف الإقليمية الأخرى للدخول في تحالفات مضادة، كما أنه قد يؤدي إلى قطيعة مع دول أخرى مهمة كالسعودية والولايات المتحدة وتركيا على نحو ما هو حادث بالفعل مع الأخيرة.