محمد هنيد

لم تُصب ثورات الربيع العربي فصيلاً سياسياً وفكرياً في المقتل مثلما أصابت من صار يصطلح عليهم اليوم في مواقع التواصل الاجتماعي خاصة «القومجيون العرب». المصطلح يشمل كل الفصائل الفكرية التي تتحلق حول فكرة القومية والوحدة والعروبة والتقدمية... وغيرها من الأوعية الجوفاء التي بان خواؤها وزيفها مع الانفجار الكبير الذي ضرب المنطقة العربية ولا يزال.
فمن الناصريين إلى القوميين التقدميين إلى البعثيين إلى مختلف التلوينات الحزبية والفكرية التي اتخذت من المقولات القومية أساساً فكرياً لقراءتها، جاء الربيع العربي لينسف كل الادعاءات وليكشف زيفها وزيف حامليها. أصاب ربيع الشعوب القوميين في المقتل دون غيرهم من الألوان الفكرية والأحزاب الإيديولوجية في المنطقة العربية، لأسباب عدة يمكن رصدها في مستويات كثيرة.
لقد حكم القوميون العرب في أكثر من قطر عربي بعد أن وصلوا إلى السلطة، حيث حكموا مصر خاصة في فترة حكم عبد الناصر، وحكموا ليبيا في فترة القذافي، وحكموا العراق مع صدام حسين، وحكموا سوريا مع آل الأسد. ففي كل هذه التجارب التي تختلف في الزمان والمكان والسياق لم يترك «القوميون» وراءهم غير أطلال الخراب والدمار والحروب الأهلية وأشرس الأنظمة الدموية في التاريخ العربي.
فقد أخرج عبد الناصر بعد الانقلاب على الملكية وإطاحة محمد نجيب مصرَ من المعادلة الاقليمية والدولية، ووضع الأسس الصلبة لدولة العسكر التي استغرقت مصر في الفقر والموت والجوع والهزائم، بعد أن سلم سيناء والسودان وغزة، وباع مصر خلال مرحلة حاسمة في مصير الأمة من أجل أن ينحت ذاته في ذهن عبيد الأصنام ومرتزقة الأوهام والأكاذيب والشعارات الجوفاء. نكّل عبد الناصر بكل معارضيه، من الإخوان والشيوعيين والمستقلين والليبراليين تنكيلاً شديداً، وأدخل مصر في نفق الهزائم التي لا تكاد تفيق منها بعد خطابات رنانة بإلقاء اسرائيل في البحر.
أما تلميذه القذافي فقد حوّل ليبيا إلى مزرعة عائلية، وحكمها بالحديد والنار عقوداً أربعة، حرمت ليبيا كل المرافق الاجتماعية والصحية والثقافية، التي تقع خارج إطار كتابه الأخضر ولجانه الثورية الدامية، في وقت حققت فيه دول أخرى قفزات علمية وتكنولوجية بإمكانات لا تصل إلى ربع ما تملكه ليبيا من ثروات.
أما بعث العراق، فرغم ما حققه من تطور علمي واقتصادي ومعرفي، ورغم وطنية قيادته مقارنة ببقية زعماء العرب، إلا أن طابع الاستبداد أوصل النظام العراقي إلى نفس النهاية التي لا بد لكل نظام استبدادي أن يبلغها، بسبب مغامراته الطائشة التي أخرجت العراق من دائرة الدولة وأوقعته في دائرة الموت والاحتلال والاقتتال الطائفي.
لكن أكثر الأدلة نصاعة على جرائم النظام القومي العربي إنما تتجلى اليوم في النظام السوري وما ارتكبه من جرائم تفوق كل صور التوحش عبر التاريخ، حيث لم يكتف النظام الطائفي هناك بقتل شعبه، بل استقدم كل فرق الموت من أجل البقاء وكيلاً للمشروع الفارسي من جهة، وللمشروع الروسي من جهة أخرى، وحارساً لحدود الكيان الصهيوني على جبهة الجولان.
اليوم لا تزال بقايا النخب القومية تتحرك مرتكبة جريمة أخرى لا تنفصل عن الجرائم السابقة بشاعة وعنفاً، حيث استبسلت في الدفاع عن النظام العسكري في مصر وهو يحرق المتظاهرين في الشوارع، وفي ليبيا وهو يُحمّل المرتزقة بالطائرات لاغتصاب النساء والتنكيل بالثوار، وفي سوريا وهو يجلب فرق الموت لذبح الأطفال.
هكذا حكمت الإيديولوجيا المعطِّلة للعقل وللوعي على القوميين العرب بالموت البطيء، بدءاً بمجازر النظام القومي العربي، وصولاً إلى خيانة النخب القومية لتطلعات الشعوب في الحرية والكرامة والعدالة والتحرر من ربقة الاستبداد والموت. بل الأدهى والأمرّ هو أن يتحول مَن رفع عقوداً شعار معاداة الصهيونية ومناصرة فلسطين إلى حارس وضيع لحدود الكيان الغاصب، إلى درجة وُصف فيها النظام المصري والسوري بأنهما جزء من الأمن القومي للصهيونية.
اليوم أيضاً يستبسل القوميون العرب في إنكار أنهم كانوا جزءاً أصيلاً من المشروع الاستبدادي العربي، وأنهم ارتكبوا أبشع الجرائم في حق الأمة وفي حق تاريخها عندما وقفوا في وجه الثورات وخوّنوها، وعندما صنعوا أصنام النظام العسكري المجرم في أكثر من بلد عربي.
إن تعرية جرائم المشروع القومي العربي الذي تحالف مع كل أعداء العرب هي في نظرنا أعظم إنجازات ربيع الشعوب الذي لا يزال يحقق كل يوم على مستوى الوعي والإدراك فتوحات لا تنتهي. هذه الفتوحات هي التي ستحفر أسس الوعي العربي الناشئ الذي سيكون متخلصاً من كل أدران الإيديولوجيات والأحزاب والتجمعات التي لم تورث الأمة غير الموت أو القابلية للموت.