العدد 1423 / 29-7-2020
بحري العرفاوي

في كل المعارك السياسية والحضارية يقع استهداف الرموز بما هي قيمة نضالية وإحالات فكرية أو سلطة روحية وأخلاقية. معركة الرموز هي أهم استراتيجيات المعارك السياسية والأيديولوجية والحضارية، وهي الأقل كُلفة والأكثر جدوى في إضعاف الخصم وإنهاكه وإلهائه. ومثل هذه المعارك يُنتدب إليها مختصون في صناعة الإشاعة وفي تدقيق "الوَصْم" وفي التلبيس على الناس.

الأستاذ راشد الغنوشي ليس مجرد رئيس حزب سياسي، وليس مجرد مناضل واجه الاستبداد طيلة حكمي بورقيبة وابن علي، ولكنه رجل يحمل مشروعا حضاريا وله حضور عربي، وإسلامي وعالمي، وله مكانته ورمزيته لدى أوساط واسعة داخل الحركات الإسلامية أو الأحزاب السياسية. وهو بعد 2011 عام أصبح "حلقة وصل" بين العالم الخارجي والدولة التونسية، وما من زائر أجنبي لبلادنا إلا وسعى إلى ملاقاته، لا يختلف في ذلك القادة السياسيون أو المستثمرون أو السفراء والقناصل أو الجهات المالية المقرضة والمانحة، حتى لكأن الجميع يرونه "ضامنا" لتعهدات الدولة والتزاماتها تجاه العالم الخارجي.

ولعل مشكلة الغنوشي في "حجمه"، إذ لم يبق بعد رحيل الباجي قائد السبسي رحمه الله، من هو بحجمه أو يستطيع أن يمثل "قوة" تعديلية في المشهد السياسي التونسي قُبالته، فالرجل "أكبر" حتى من رئيس الجمهورية من حيث نضاله وفكره وتاريخه، أيضا من حيث حزبه الأوسع انتشارا والأكثر تنظما والأسرع حركة.

ما يشهد به له كل من عرفه؛ أنه رجل حوار يُجيد الاستماع للمختلفين ويُحسن مخاطبة الخصوم بلا توتر ولا شتيمة، بل إنه "يُغضب" خصومه بهدوئه وبعقله البارد، حيث يفشل كل من حاول استفزازه في إخراجه من عالمه البارد الوقور.

من تابع جلسة "المساءلة" التي تعرض فيها الرجل لكمّ هائل من الاستفزاز والتهم والترذيل طيلة 14 ساعة دون أن يغضب أو يصرخ؛ يتساءل عن طبيعة شخصية هذا الرجل وعن مدى قدرته على التحمل والصبر والتجاوز.

من يستهدف الرجل؟ ولماذا يستهدفونه؟ وما هي أساليبهم في استهدافه؟ وما حظوظهم في إخراجه من المشهد السياسي؟

في البداية كان الاستهداف لحركة النهضة برمتها، ولكن حين تأكد أن الحركة لا يُمكن أن تُهزم سياسيا؛ باعتبارها معبرة عن وجهة نظر كثير من التونسيين وباعتبار نضالية رموزها وقواعدها زمن الاستبداد، فقد غيّر "الخصوم" (وهم من اليسار الاستئصالي وبقايا النظام القديم) أسلوبهم في مواجهة الحركة، فاستهدفوا "رأسها"؛ محاولين "شيطنته" وتنفير الناس منه، سواء من عموم المواطنين أو حتى من أتباع الحركة ذاتها، حين يصبح بعضهم (وضمن تموقعات داخلية) يرون الغنوشي مستبدا بالرأي، متصرفا في الحركة كما لو أنها "مشروعه الخاص".

من يستهدفون الغنوشي لا يستهدفونه ضمن صراع داخلي أو اختلاف في التقديرات السياسية، إنهم يستهدفونه ضمن معركة إقليمية محورها سياقات الربيع العربي وما يترتب عنها من إعادة توزيع "القوة" في المنطقة، أيضا إعادة توزيع الثروات وضبط الخارطة وفق تصور جديد للعالم.

من يستهدفون الغنوشي لا يناقشون أفكاره ولا تقديراته السياسية، إنما يمارسون "قَصْفا مُرَكّزا" على رمزيته، يَصمونه بما يظنون أنه ينفّر من حوله الناس وينتهي به إلى عزلة داخل حركته وداخل البلاد وفي المنطقة بأكملها.

جلسة "المساءلة" داخل البرلمان لم تكن احتجاجا على تجاوز الغنوشي لصلاحياته، حين اتصل برئيس حكومة الوفاق الليبي فائز السراج أو التقى بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وإنما كانت الجلسة للنيل من مكانة الرجل ورمزيته، ولمحاولة "ردعه" حتى يكف عن ممارسة "حضوره" في الصراع الإقليمي.

حين نتابع بعض القنوات العربية نلحظ "القصف المركز" على شخصية الغنوشي، وهو ما يسمح لأي متابع باستنتاج كون الرجل مستهدفا من حكام دول عربية ترى فيه "خطرا" على أنظمتها؛ حين تصبح التجربة التونسية مثالا للديمقراطية وحين ينجح الغنوشي في تحقيق التعايش بين الإسلام والمدنية.

الغنوشي أصبح فعلا "عقدة" لدى فاعلين سياسيين في المشهد التونسي، بداية من رؤساء الأحزاب وانتهاء إلى رئيس الدولة قيس سعيد. لقد اختفى كل القادة السياسيين القدامى، سواء بالانسحاب من المشهد أو بفعل الهزائم المتتالية في الانتخابات. وحتى الزعماء الجدد فإنهم أضعف حضورا وتأثيرا وتكوينا، وما زالوا بصدد التدرب على الممارسة السياسية. هؤلاء جميعا يرون الغنوشي عائقا أمام طموحاتهم وحاجبا المستقبل عنهم، بل إن مراقبين كثيرين يرون الغنوشي هو "الجسر" الذي يمر من خلاله الرؤساء والوزراء، وأن كل من يغضب منه الغنوشي ينتهي سياسيا، والأمثلة معلومة.

الغنوشي يؤكد دائما أن ما يعنيه ويعني حزبه هي المصلحة الوطنية قبل المصلحة الحزبية، وأنه حريص على نجاح التجربة الديمقراطية أكثر من حرصه على فوز حزبه في الانتخابات.

هذا الموقف المبدئي يُفتَرَضُ أنه يجعلنا نطمئن على مستقبل المسار الديمقراطي، فلا نخشى تمرد حركة النهضة على نتائج أي انتخابات، ولا نتخوف على مستقبل الأحزاب الصغيرة طالما أن الديمقراطية محتَرَمة من قِبل الحزب القوي في الساحة السياسية وفي غابة المئتي حزب.

إذا لم يفصل السياسيون بين آليات إدارة الشأن الوطني وبين آليات الصراع الإقليمي؛ فإن بلادنا ستصبح (وقد بدأت) ساحة للصراعات الخارجية، وسينقسم التونسيون على أنفسهم بين المحاور؛ ينشغلون عن قضاياهم الحقيقية في التنمية والتشغيل والأمن والسلم المدني، ليغرقوا في قضايا هي أكبر من أن يتحملها المواطن الذي أرهقته متطلبات العيش وأسئلة الأطفال.