العدد 1692 /3-12-2025

إياد الدليمي

وسط ضجيج التساؤلات الإقليمية والدولية، تتقاطع اليوم احتمالاتٌ ثلاثة في رقعة العراق: التدخّل العسكري المحدود أو الواسع، العقوبات الاقتصادية المتصاعدة، أو بقاء الوضع على حاله مع استمرار نفوذ الفصائل المسلّحة، ولكن بطريقة أقل ضرراً على المصالح الأميركية والإسرائيلية. لكن أيّاً من هذه المسارات ستكون له تبعاتٌ جيوسياسية واقتصادية واجتماعية لا يُستهان بها، ستنعكس على العراق حتماً، وعلى محيطه الإقليمي بطريقة أو بأخرى.

بات الواقع السياسي الداخلي مرآةً لصراع نفوذ أعمق؛ ففي الانتخابات البرلمانية أخيراً، تصدّر تحالف رئيس الوزراء محمّد شيّاع السوداني قائمة النتائج، بحصوله على 46 مقعداً من مجموع 329، لكن هذا لا يمنحه سلطةً حاسمةً من دون تحالفات مع كتل أخرى تتضمّن أطرافاً ذات امتدادات مليشياوية أو محاور إقليمية متباينة.

خارجياً، تتصاعد جهود الولايات المتحدة للضغط على بغداد لاحتواء المليشيات الموالية لإيران وإخضاعها للسلطة المركزية. لم تكتفِ واشنطن بالتحذيرات الكلامية، بل فرضت عقوبات وإجراءات استهدفت شبكات داعمة لفصائل مسلّحة، في محاولة لرفع كلفة استمرار سيطرة هذه التشكيلات على القرار والشارع. بل وصل الأمر إلى إطلاق مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى العراق، مارك سافايا، سلسلة تحذيرات عن محاولة سيطرة المليشيات على القرار السياسي في العراق، مؤكّداً، في آخر ما نشره على حسابه عبر منصة إكس، أنه "لا يمكن لأيّ اقتصاد أن ينمو، ولا لأيّ شراكة دولية أن تنجح، في بيئة تختلط فيها السياسة مع مصادر قوة غير رسمية"، ليبقى السؤال مطروحاً أمام سافايا، ومن خلفه ترامب: ما هي خياراتهم للتعامل مع الوضع العراقي؟ هل سيتم الاكتفاء بمزيد من الضغوط الاقتصادية التي يمكن فعلاً أن تقوّض نشاط المليشيات وقدرتها؟ أم أن هناك خيارات أخرى، منها على سبيل المثال السماح لإسرائيل بالتعامل مع المليشيات العراقية على طريقتها، كما توعّدت تل أبيب في أكثر من مناسبة؟

العقوبات الدولية، خصوصاً التي تفرضها واشنطن وحلفاؤها، ليست مجرّد عقبات رمزية؛ بل تصيب شريان الاقتصاد العراقي إذا ما طاولت قطاعات الطاقة أو شركات النفط الأجنبية العاملة في العراق. فعلى سبيل المثال أعلنت شركة لوك أويل الروسية حالةَ القوة القاهرة في حقل القرنة "2"، بعد فرض عقوبات أميركية على الشركة، وهو ما قد يؤثِّر على إنتاج النفط العراقي، ويهدّد بالتالي إيرادات الدولة التي تعتمد بنسبة تصل إلى نحو 90% على النفط، ناهيك عن عقوباتٍ منتظرة، أُجِّلت أميركياً قبل موعد الانتخابات العراقية في 11 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، وهي عقوبات يُتوقَّع لها أن تساهم في شلل كبير في المنظومة الاقتصادية العراقية، قبل أن تقرّر واشنطن منح ما يمكن أن نطلق عليها "الفرصة الأخيرة" لبغداد لتدارك الأمر.

في المقابل، يعيش العراق على وقع أزمات اقتصادية تغطيها دائماً إيرادات النفط المرتفعة. فالعراق يصدّر اليوم قرابة أربعة ملايين برميل، فضلاً عن عمليات تصدير أو تهريب يقوم بها ساسة وقادة مليشيات من منافذ تهريب عدّة، بعضها بحري والآخر برّي، وهي في غالبيتها لا تدخل في حساب إيرادات الخزينة العراقية. أيُّ هبوط في أسعار النفط أو تعطل في العقود التشغيلية في الحقول الكبرى، سينعكس فوراً على قدرة الحكومة العراقية على دفع رواتب الموظّفين وتمويل الخدمات، وقد يعيد ذلك سيناريو الاحتجاجات، وتكون السلطة، بذراعيها، الرسمي وغير الرسمي، في مواجهة مع الشارع.

الحديث عن خيار توجيه ضربة عسكرية يبدو من الخيارات الصعبة التي لا تجد ترحيباً كبيراً لدى صنّاع القرار ومراكز الدراسات الغربية، التي ترى أن ضربة، حتى وإن كانت نوعية، لن تكون حاسمةً لحلّ معضلةً المليشيات وتمدّد إيران داخل الجسد العراقي، بل قد تعطي مصداقيةً لخطاب تلك المليشيات التي ما فتئت تتحدّث عن مخطّط يستهدف العراق و"المقاومة". ناهيك طبعاً عن أن ضربة عسكرية، وإن كانت محدودةً، ستعني تعرّض مصالح الدول الغربية للخطر؛ فالمليشيات العراقية تملك إمكانات عسكرية كبيرة جدّاً، وفي حال تهديدها وجودياً قد تدافع عن نفسها وترمي بآخر خياراتها.

يبقى خيار الإبقاء على الوضع الحالي مع التعامل العقابي المتصاعد لنفوذ المليشيات وصولاً إلى تحجيمها وتقليص مساحة النفوذ الإيراني الذي تصفه واشنطن بـ"الخبيث". وهو خيار يبدو الأقرب إلى قلب البيت الأبيض. فمع وصول مبعوث ترامب إلى العراق الأسبوع المقبل، ستكون مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة قد وصلت إلى مراحل متقدّمة. وصلت إلى بغدادَ أكثرُ من رسالةٍ أميركية تشدّد على أن لا مكان لأيّ "مليشياوي" في تشكيلتها، وهي رسالة نقلها القائمُ بالأعمال الأميركي تمهيداً لزيارة مبعوث ترامب. رسالة تعتقد بغداد أنها تحمل "أهون الشرَّين"؛ فهي تشير بشكل ما إلى أن الإجراءات العقابية التي لُوِّح بها، وقد تصل إلى أهم مفاصل الاقتصاد العراقي، كالبنك المركزي وشركات النفط، قد لا تكون مطروحةً، وأن المطلوب أميركياً في هذه المرحلة هو تخفيف حدّة التوترات الداخلية، بما يضمن سيرَ أعمال الحكومة الجديدة، التي يجب أن تأخذ على عاتقها العمل على تفكيك المليشيات وأنشطتها وحصر السلاح بيد الدولة. وهو أمر ترى فيه قوى "الإطار التنسيقي" الشيعية أنه ممكن، ولكن يجب أن يكون على مراحل وألّا يأتي فجأة وبقوة.

المشكلة أن حادثة قصف حقل كورمور للغاز في السليمانية، قبل أيام بعثرت كثيراً من أوراق "الإطار الشيعي". فعلى الرغم من أن قوى "الإطار" أعلنت أن لا علاقة للمليشيات بهذا العمل، إلا أن هناك دلائل تؤكّد أن المسؤول عن القصف فصيل ينتمي إلى "الحشد الشعبي"، وأن هذا الفصيل تلقّى أوامرَ مباشِرةً من قوى محلّية لها علاقة قوية بإيران. ربما يدفع هذا القصف واشنطن إلى إعادة التفكير بما لديها من خيارات، خاصةً أن هناك شركاتٍ أميركية بدأت فعلاً العمل في حقول النفط والغاز. بالتالي، فإن قصف الحقل الغازي في السليمانية كان بمثابة رسالة نارية توضح من خلالها تلك المليشياتُ قدرتها على شلّ حركة الشركات في حال تعرّضت لمزيد من الضغوط.