العدد 1667 /11-6-2025

حسام أبو حامد

ربّما لم يخطر ببال ديفيد بن غوريون، حين أقرّ، قبل 77 عاماً، إعفاءً محدوداً لبضع مئات من طلاب المدارس الدينية (يشيفوت) من الخدمة العسكرية، أنه يضع بذور أزمة تهدّد وجود إسرائيل. كان الهدف آنذاك سياسياً بحتاً؛ استيعاب الحريديم في المشروع الصهيوني. إلا أن كرة ثلج "الاستثناءات المؤقّتة" تدحرجت من إعفاءات فردية إلى جماعية، ثمّ إلى نظام امتيازات مقدّس لا تقبل الأحزاب الدينية المساس به، وتعتبره شرطاً أساساً لأيّ تحالف سياسي.

منذ سنوات، يحوم شبح الخلاف حول خدمة الحريديم العسكرية في فضاء السياسة الإسرائيلية، لكنّ هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023) سرّع انفجار الأزمة، ومع توسيع العدوان على غزّة، واحتدام المواجهات في أكثر من جبهة، تبيّن لجيش الاحتلال، الذي لطالما تباهى بقدراته التقنية، أنه بحاجة ماسّة إلى "أحذية على الأرض"، ما أعاد بقوة طرح إعفاء الحريديم على طاولة النقاش، بوصفه تمييزاً فجّاً باسم الدين، يعارضه اليوم أكثر من 70% من الإسرائيليين. وعلى الرغم من محاولات الالتفاف السياسي، قضت المحكمة العليا بإلزام حكومة بنيامين نتنياهو باحترام مبدأ المساواة في أداء "الواجبات الوطنية"، وأبطلت أكثر من مرّة أي إعفاء جماعي لا يستند إلى أساس قانوني صريح، لكنّ الحكومة لجأت إلى سياسة المماطلة والمناورة، وحاولت تأجيل الانفجار السياسي المتوقّع.

المعضلة أعمق من مجرّد قضية تجنيد؛ إنها تمسّ جوهر البنية الاجتماعية الحريدية، القائمة على عقيدة "توراته مهنته"، والتي ترفض كلّياً الانخراط في مؤسّسات الدولة، وفي مقدمتها الجيش. ومن هنا، تصرّ الأحزاب الحريدية، خصوصاً حزبَي شاس ويهودوت هتوراه، على تمرير قانون شامل يضمن إعفاء طلاب التوراة نهائياً، أو على الأقلّ سنّ "قانون طوارئ" يحافظ على الوضع الراهن. في المقابل، يرفض رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست يولي إدلشتاين (حزب ليكود)، أيّ تسوية لا تشمل فرض عقوبات فورية على المتهرّبين من الخدمة. ومع تعثّر المفاوضات الداخلية وازدياد الضغط الشعبي والنيابي، قرّر حزب يش عتيد (المعارض) التقدّم رسمياً (غداً الأربعاء) بمشروع قانون لحلّ الكنيست، وأعلن الحريديم دعمهم للمشروع إذا لم يحصلوا على ضمانات صلبة بشأن قانون التجنيد، وأرسلوا إلى نتنياهو رسالةً حزبيةً موحّدةً: لا مساومة على إعفاء طلاب التوراة، ولو على حساب إسقاط الحكومة، ما يعني أن الأزمة لم تعد تدور حول بند قانوني أو تسوية سياسية فقط، بل دخلت مرحلة الصراع الوجودي حول هوية الدولة: هل هي يهودية بالمعنى الحاخامي، أم مدنية بالمعنى الليبرالي؟ وهل يمكن أن يستمرّ التمييز بين شابّ يخدم في وحدات النُّخبة وآخر يُعفى لأنه يضع فوق رأسه قبعة سوداء (كيباه) ويحفظ التلمود؟

يواجه نتنياهو سيناريوهات محدودة ومحفوفة بالمخاطر؛ تمرير قانون إعفاء شامل سيرضي الحريديم، لكنّه سيفجّر أزمة مع الجيش والمحكمة العليا، ويدفع نحو اضطرابات شعبية؛ فرض التجنيد بالقوة سيؤدّي إلى مواجهةٍ مفتوحةٍ مع المجتمع الحريدي، وربّما إلى تفكيك الائتلاف؛ التأجيل أو تقديم مشروع قانون مخفّف، وهو تكتيكٌ لم يعد يجدي نفعاً، لأن الخلافات داخل الائتلاف نفسه أصبحت غير قابلة للترقيع. مع فقدان أدوات المناورة القديمة، أصبح الحريديم، الذين كانوا بيضة القبّان في الحكومة، عبئاً استراتيجياً يصعب احتواؤه في زمن الحرب والانقسام الشعبي. تشير الدلائل إلى أن الانهيار مسألة وقت، فغياب تسوية عادلة بشأن "عقد المساواة" في الخدمة العسكرية يعني أن الأزمة ستتفاقم حتى تنفجر، والأحزاب الحريدية اليوم مستعدّة لحرق السفينة إن لم يُلبّ مطلبها الأساس.

في حال التصويت على حلّ الكنيست، وهو السيناريو المشتهى بالنسبة إلينا (نحن أعداء إسرائيل)، ستُفتح الأبواب رسمياً لانتخابات مبكّرة قد تُطيح نتنياهو وحلفاءه الحريديم، وربّما مستقبل اليمين الإسرائيلي التقليدي، فالمزاج الشعبي تغيّر، ولا ينظر الناخبون بعين الرضا إلى التحالفات التي حافظت على امتيازات دينية، في وقت يقتل فيه الجنود في جبهات متعدّدة. وفي ظلّ عودة محتملة لنفتالي بينت، يبدو أن "يمين ما بعد نتنياهو" يتشكل ببطء، لكن بثقة. الأزمة الحالية مرآة لأزمة هوية أعمق، ونهاية تحالفات كانت مقدّسة.

تصعيد حرب الإبادة

تستمرّ المجزرة المفتوحة في غزّة، عمليات قتل جماعي يومياً تستهدف مدنيين جوّعوهم، ثمّ نصبوا لهم فخّاً عند توزيع المساعدات الغذائية، فراحوا يقتلونهم باسم "الإنسانية"، والعالم يتابع ذلك في شاشات التلفزة. دول أوروبية دعت إلى منح فلسطين عضويةً كاملةً في الأمم المتحدة، انهالت عليها الإدانات والاتهامات والحملات من إسرائيل وأميركا. كانت دعوة في مجلس الأمن إلى اتخاذ قرار إنساني بشأن غزّة يطالب برفع فوري وغير مشروط للقيود المفروضة على دخول المساعدات، والسماح للأمم المتحدة وشركائها بتوزيعها في أنحاء القطاع. عند التصويت، استخدمت الولايات المتحدة حقّ النقض (فيتو). سقط القرار، ما يُطلق يدَ إسرائيل أكثر، فتستمرّ في استباحتها دماء الفلسطينيين. رغم الخلافات على إدارة بعض جوانب الحرب بين أميركا وإسرائيل لا خلاف على الموقف المبدئي، وعلى مستقبل قطاع غزّة والضفّة الغربية معاً. يدعو رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت إلى "طرد الإرهابيَّين بن غفير وسموتريتش من الحكومة"، ويؤكّد: "إسرائيل ترتكب جرائم حرب في قطاع غزّة، ودعوة وزراء إلى تجويع سكّانها وإبادتهم هي جريمة حرب لم يعلّق عليها نتنياهو. يحرقون البيوت وبساتين الزيتون، يقتلون الناس، والذين يجري اعتقالهم هم من الفلسطينيين الضحايا". هذا أولمرت، الذي قاد حروباً ضدّ لبنان والفلسطينيين، يتحدّث وكأنّ ما يجري لم يسبق له مثيل (!).

يعلن وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس بوضوح: "بدأنا بتنفيذ سحب الجنسية وطرد (المخرّبين) من حملة الجنسية الإسرائيلية". يعني، بدأ الخطر يطاول فلسطينيي الداخل، ويؤكّد ما كنتُ أركّز فيه دائماً: "ثمّة خطر على حقّ البقاء، وليس فقط على حقّ العودة". ويضيف: "سنبني الدولة اليهودية الإسرائيلية في الأرض، وهي رسالة واضحة إلى ماكرون وأصدقائه. هم سيعترفون بدولة فلسطين في الورق. وسيُرمَى هذا الورق في سلّة مهملات التاريخ، وستزدهر دولة إسرائيل". أمّا وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، فيؤكّد الإجراءات العملية لضمّ الضفة عند إعلانه: "أصدرت تعليماتي لموظفي الإدارة المدنية بالبدء في العمل لإحلال السيادة على الضفة الغربية. إنها (يهودا والسامرة). هذه أرضنا. ونحن نقرّر". وتدخل قوات الاحتلال مكتب قناة الجزيرة في رام الله بهدف منعها من تغطية ما يجري في الأرض، وسبق أن أقفلت مكتبها في القدس واستهدفت مراسليها ومصوّريها، وعدداً كبيراً من الصحافيّين الذين سقط منهم الشهداء. ذلك كلّه في محاولة لطمس الحقائق والوقائع، والمضي في مشروع تهويد الأرض، كلّ الأرض.

مرّة جديدة، إسرائيل لا تريد "حماس" ولا تريد السلطة الوطنية. تريد استباحة كلّ شي. ولا تحترم الشرعية الدولية، ولا مواقف الدول والحكومات الغربية المؤيّدة لها، ولكن الداعية إلى وقف الحرب، وبعضهم استخدم تعبير "الإبادة الجماعية" في توجيه الانتقادات إليها. ضمّ الضفة، استهداف القدس والمسجد الأقصى، سحب الجنسيات... كلّها خطوات في طريق تكريس يهودية الدولة، ولا تتلاقى مع أيّ دعوة أو تمنٍّ لـ"حلّ الدولتَين". ثمّة دولة واحدة يهودية اسمُها إسرائيل. في السابق كان إذا زار مسؤول عربي إسرائيل أو الضفة الغربية، بإذن منها، تعمّ الفرحة، ولا يتوقّف الحديث عن الإنجازات والتطبيع.

هذا يعيدني إلى ما كتبتُه (4/1/1995)، في كتابي "لبنان الثمن الكبير للدور الصغير" (بيروت، 1999. ص 139) في تناول انعكاسات السلام والتطبيع على لبنان، فقلت: "إسرائيل ستظل قوّةً عسكريةً منفصلةً، ومجتمعاً بشرياً متميّزاً يغذّيه الشعور بالتفوق، ولكنّها ستندمج اقتصادياً في ما حولها أو هي ستدمج ما حولها في اقتصادها، وستنفتح عليها الحدود دون أن تفتح حدودها. وتذوب العداوات معها دون أن تذوّب عداواتها. سيطلب العرب صداقتها وسيدفعون الثمن. ستكون غداً مركز الاتصال والرصد ومخفر الأمن".

هذه هي إسرائيل، في الأساس هكذا تصرّفت، وهكذا تتصرّف اليوم. المطلوب عربياً، ولو بعد تأخّر طويل، أن نقرأ المشهد والسيرة بشكل صحيح، أن نشخّص الحالة بطريقة صحيحة لنقدّم الحلّ الصحيح. لا يجوز الاستمرار بالذهنية ذاتها، والتوّهم أن المال يحمينا بالطريقة التي نتصرّف بها، أو أن اتفاقات إبراهيمية كانت أم غير إبراهيمية يمكن أن تحمي وتوفّر أمناً وسلاماً واستقراراً وازدهاراً في المنطقة، إذا استمرينا بعدم معرفة عناصر القوة التي نملكها، والتي تستهدفها إسرائيل. عامل الوقت ليس في مصلحتنا