العدد 1692 /3-12-2025
ليلى الشايب
فيما لا يزال
كثيرون يحاولون عدّ الحروب "الثماني" التي يردّد الرئيس الأميركي،
ترامب، منذ أسابيع، وبكل ثقة وفخر، أنه نجح في إنهائها في وقت وجيز، وكان يطمع في
أن تؤهله لنيل جائزة نوبل للسلام التي أفلتت منه، من دون أن يحبطه ذلك كثيراً،
يفاجئهم ترامب، ويفاجئ العالم، بدقّ طبول الحرب في جنوب الولايات المتحدة نفسها،
محدِّداً فنزويلا هدفاً يعتقد أنه سيحقّق له أهدافاً كثيرة وثمينة، مؤكّداً أنه
بذلك يصحّح خطأً آخرَ من أخطاء سلفه جو بايدن وسياسات الديمقراطيين
"المتسامحين جدّاً" مع ما أفرزته فوضى الجنوب الزاحفة نحو الشمال،
حاملةً معها أنواعاً شتى من العلل الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والصحية. لقد
أفصح ترامب عن عنوان حربه (وحرب الجمهوريين التي بدا وكأنها لا بدّ منها) ضدّ
فنزويلا، بعدما فرغ تقريباً من ضربة قاسية ومكثّفة ضدّ الهجرة غير الشرعية العابرة
للحدود بين الأميركتَيْن، وهي من أبرز وعود ولايته الثانية وأكثرها إثارةً للجدل،
وعلى تنفيذها يتوقّف إنجاز وعود أخرى كثيرة ترتبط أساساً بالأمن والاقتصاد.
بدأت الحكاية
وتراكمت سريعاً بعد المواقف السياسية والإنسانية اللافتة التي اتخذتها فنزويلا من
حرب غزّة الدامية، برئاسة الاشتراكي نيكولاس مادورو، زعيم الحزب الذي وحَّد بين
القوى السياسية والاجتماعية الداعمة للثورة البوليفارية التي أطلقها الرئيس الراحل
هوغو تشافيز (الحزب الاشتراكي الموحّد الفنزويلي)، وأكبر حزب يساري في نصف الكرة
الغربي. وتسارعت فصولها وحبكتها بعد إهداء "نوبل للسلام" لهذا العام إلى
المعارضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو التي وصفتها لجنة الجائزة بأنها
"مناضلة من أجل تحقيق انتقال عادل وسلمي من الدكتاتورية إلى
الديمقراطية" في بلادها، وقد أهدت ماتشادو الجائزة إلى الرئيس ترامب، في مشهد
يقول كثيراً عمّا ينتظر فنزويلا وسلطتها القائمة، ويحوّل الأنظار عن البلد الذي
كان يُعتقد أنه الأكثر إثارةً لقلق الرئيس الأميركي وإدارته، بحسب لائحة الاتهامات
والمخاوف والشكوك التي كان يرفعها في كل مرّة لتبرير هجمته الشرسة على المهاجرين،
وهو المكسيك. فإذا بالسهم المُتحرِّك في الخريطة اللاتينية يُوجَّه ناحية فنزويلا،
وفي اتجاهه أيضاً تحرّكت قطع بحرية، في مقدّمتها حاملة الطائرات "يو إس إس
جيرالد فورد"، ومدمّرات حديثة وطائرات وما يربو على 15 ألف جندي على الأرض
وفي البحر والجو، ليتحوّل البحر الكاريبي، والمحيط الهادئ الشرقي، بؤرةً قابلةً
للاشتعال في أيّ لحظة.
لقد فاجأت
التفاتة ترامب الغاضبة تجاه فنزويلا ورئيسها كثيرين، وبدا كأنّها خارج سياق الأحداث
أو أزمة مختلَقة لم تُمهِّد لها وقائع سابقة. لكن المفاجأة تتبدّد عندما توضع
التصريحات والتلميحات والوعود والتهديدات جنباً إلى جنب لتتضح الصورة. أوضحها،
وأقلّها حاجةً إلى التأويل، إعلانُ المعارضة للنظام في فنزويلا ماريا ماتشادو
دعمَها إسرائيل ساعاتٍ قليلة بعد إعلان فوزها بجائزة نوبل للسلام في مكالمة مع
رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وقد سبق أن تعهّدت بنقل سفارة فنزويلا
إلى القدس إذا وصلت حركتها إلى السلطة، لتلتحق بزعماء آخرين من أميركا اللاتينية
اتخذوا مواقف مؤيّدة لإسرائيل، منهم الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي والرئيس
البرازيلي السابق جايير بولسونارو. وأحدث ما صدر عنها "صفقة القرن"
الجديدة التي عرضتها على ترامب، وبمقتضاها وعدت بمنحه نفط فنزويلا مقابل إسقاط
نظام نيكولاس مادورو. ولتتضح تفاصيل الصورة أكثر، تدخل إسرائيل على خطّ الأزمة
فتتصاعد دبلوماسياً، ولم يكن ذلك سوى الشجرة التي تخفي الغابة وراءها؛ غابة نمت
وترعرعت وتشابكت أغصانها ودروبها الوعرة بعيداً من الأضواء، واستغرقت من الوقت ما
أهّلها لتظهر اليوم بانكشاف كامل.
مواجهة كلامية
بين وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر ونظيره الفنزويلي إيفان خيل بينتو،
تزامنت مع تحذيرات شديدة صدرت عن كوبا بشأن التحركات العسكرية الأميركية في
المنطقة، أفرغت خلالها إسرائيل، ومرّة واحدة، ما في جعبتها من اتهامات ضدّ كاراكاس
تنمّ عن مراقبة طويلة صامتة. نطق المسؤول الإسرائيلي في جلسة خصّصها برلمان
باراغواي للتضامن مع إسرائيل، فقال إن بعض دول أميركا الجنوبية "تبني تحالفات
تجمع بين الجريمة المنظمة والإرهاب مع دول متطرفة في الشرق الأوسط"، معتبراً
أن "فنزويلا تعدّ مركز هذه الشبكة". وزاد أن كاراكاس "تزعزع
استقرار المنطقة عبر خلق أزمة لاجئين، وتستخدم قاعدة لنشطاء حزب الله، وتستضيف
منشأة لإنتاج أسلحة إيرانية"، مذكّراً بأن مادورو أعلن انضمام بلاده إلى ما
أسماه "محور المقاومة".
وكما لم تستمع
دولة الاحتلال إلى جلّ الدول التي ندّدت بالإبادة التي شاهدها العالم على الهواء،
لم تستمع أيضاً إلى ردّ الخارجية الفنزويلية التي جدّدت التأكيد، وبلهجة حادّة، أن
على "المجرمين ومرتكبي الإبادة الجماعية أن يستعدّوا للمثول أمام القضاء لا
أن يتهموا الآخرين". لم تستمع، بل مضت في تنفيذ تهديدها الأزلي بمعاقبة
"كل من يؤذي إسرائيل" أو حتى يحاول هذا، وملاحقته ولو كان في آخر بقعة
في العالم. لذا بدا عنوان "حرب على فنزويلا" مثيراً للدهشة وصادماً،
وكان ينبغي فقط تركيب كلمات الأحجية ليكتمل المعنى والمقصود.
عندما رفع ترامب
العصا في وجه البلد اللاتيني الكبير، لم يذكر لا إيران ولا حزب الله ولا
"محور المقاومة"، وهو يرسل مبعوثيه بشكل مكوكي إلى لبنان ولا رغبة لديه،
بل لا يجوز أن يفسد مهمتهم بكيل اتهامات خطيرة، ويُناور إيران تارة ويُغريها تارة
أخرى. فاكتفى بوصف الرئيس نيكولاس مادورو بأنه زعيم عصابة مخدّرات شديدة التعقيد
والخطورة تهدّد أمن الولايات المتحدة وسلامة سكّانها، وهذا سبب يكفيه ليهدّد بحرب
على بلاده ويحقّق أهدافاً كثيرة بضربة واحدة، يشكّك من خبروا أسلوب ترامب في أنه
سينفّذها فعلاً، خصوصاً بعدما ردّ مادورو على تهديداته باختصار الطريق عليه وتقديم
امتيازات كبيرة للشركات النفطية الأميركية في نفط فنزويلا بدلاً من أن يذهب ليبحث
عنه بعيداً. وكما بدأ ترامب هجمته على كاراكاس فجأة ومن دون مقدّمات، يبدو الآن
(وحتى بعد تقديم مادورو تنازلاً ثميناً) مضطرباً متردّداً، ولم تخرج من فمه بعد
العبارة السحرية "إسقاط النظام في فنزويلا"، ما يوحي بأن لا رغبة لديه
في هذه التعبئة وهذا الحشد العسكري والحرب النفسية أو في الذهاب بها إلى حدّ أبعد
مما بلغته وحققت له ما أراد.
في خلفية المشهد
المخيف في البحر الكاريبي، والمحيط الهادئ الذي لم يعد هادئاً، يمثل طيفُ إسرائيل
أساساً، وفي أذن ترامب ومساعديه يوسوس صوتٌ يزيّن له الحرب على فنزويلا، ويضيف إلى
نفطها "معادن نادرة" عظيمة تتقاتل الدول الكبرى على وضع يدها عليها،
وبالفوز بحليف كبير ذي ثقل استراتيجي في الجغرافيا اللاتينية في حال أطيح مادورو،
ويبتزّه بملفّات ثقيلة إذا تردّد أو رفض. في المقابل يحذّر الخبراء في أميركا، في
كتاباتهم والإحاطات التي يتلقاها رئيسهم، من "فوضى وتحدّيات" في حال سعيه
إلى إطاحة نظام مادورو، مستندين إلى حقائق معقّدة داخل المؤسّستَيْن السياسية
والعسكرية في فنزويلا، إضافة إلى مراكز نفوذ أخرى غير رسمية قد تستحوذ على السلطة
وتأخذ البلاد في اتجاهات مجهولة لن تكون لواشنطن سيطرة عليها. ترسم بعض هذه
الاحتمالات سيناريوهات تجعل من يطّلع عليها يستحضر حالة العراق: فوضى واقتتال على
السلطة، وفي أقلّ السيناريوهات خطورة على الولايات المتحدة نفسها وعلى الجوار، أن
يحكم الجيش قبضته على الحكم... والباقي لا يحتاج إلى تفصيل.
ستواجه الولايات
المتحدة، في حال اندلاع الفوضى، نسخة أخرى من عراق ما بعد الغزو، ولكن هذه المرّة
في جوارها القريب! وبرغم مظاهر الحشد العسكري الضخم وأسماء قطعه الرنّانة، ينبّه
خبراء واقعيون إلى عدم امتلاك الولايات المتحدة في الوقت الحالي الأصول العسكرية
الكافية لشنّ عملية واسعة النطاق لإزاحة مادورو، سرعان ما أوجد لها من لهم مصلحة
في التخلّص من الرئيس "العنيد" حلّاً بديلاً يتمثّل في شنّ عملية سرّية
محدودة داخل فنزويلا. لم يعد يخفى على المتابع مدى القلق والإنهاك اللذين يظهران
على ترامب في حديثه ولغة جسده، وما يواجهه من ضغوط خارج دائرة الضوء، وصلت (بحسب
تسريبات) إلى مقايضات تضعه أمام ضرورة الحسم في فنزويلا مقابل التقدّم أو الجمود
في غزّة، وعملية ابتزاز مواربة بملف إبستين سيئ الذكر، إضافة إلى إطلاق يد إسرائيل
في لبنان وسورية والضفة الغربية، حتى لم يعد يُسمَع صوت لواشنطن في خروقات إسرائيل
السافرة في هذه الدول والمناطق التي استفرد بها جيش الاحتلال والمستوطنون بشكل غير
مسبوق.
وفي هذه الأجواء
الملبَّدة، وفيما يبدو حدثاً غير ذي صلة (وهو ذو صلة) يصعد الشاب زهران ممداني
عمدةً لنيويورك، مختزِلاً في شخصيته وخطابه كلّ ما هو نقيض شخصية ترامب
والأيديولوجيا التي يعتنقها، ورؤيته لأميركا كما يريدها أن تكون. مسلم يساري
(اشتراكي) يجمع في هُويَّته وارتباطاته الشخصية والسياسية بين آسيا والعالم
العربي، ويدافع بشراسة عن القيم التي خرج من أجلها آلاف الشباب الأميركي والمهاجر
وطلّاب الجامعات معاً، فقُمِعوا وطوردوا بإيعاز من الخارج أكثر من الداخل. هذا
الشاب "الاشتراكي"، كما يُصنَّف فيما يشبه التهمة والخشية، سيجد (إن لم
يكن قد حدث بالفعل) من يربطه بالأيديولوجيا الثورية التي لا تزال حيّةً في عدة دول
لاتينية، وفنزويلا في قلبها، ويربطه أيضاً بخصوم أميركا الألدّاء وعلى رأسهم
الصين، رغم التحوّلات العميقة التي تعيشها هذه القوة الصاعدة بسرعة. وسيُوصى ترامب
(من الدوائر نفسها التي تعمل بكل السبل لصرف الأنظار عن المرحلة الجديدة من
مخططاتها الجهنمية) بفكّ الارتباط مبكّراً بين نيويورك وأميركا الجنوبية، والصين
ومن معها، قبل أن ينمو ويكبر ويخرج عن السيطرة.
لا يحبّ ترامب
الحروب، وهذه أبرز حسناته، ولا يتوقّف عن التذكير بأنه نجح في إنهاء عدد منها،
وبأنه وجد نفسه مسؤولاً عن صراعات تركتها له إدارة بايدن، وأنه لو كان مكانه لما
سمح باندلاعها. وفي تكراره هذه الأسطوانة، يستشعر المتلقّي وكأنه يستنجد ويطلب
إعفاءه من شنّ حرب جديدة... وأين؟ في الجوار الأميركي الذي ظلّ عقوداً طويلةً
بعيداً من نيران الحرب التي تستعر هنا وهناك في المناطق النائية عن بلاد العم سام
وتمثال الحرية.
كانت ولايته
الأولى "مسالمة"، وهو يرغب في تعزيز هذه "السلمية"، لكن
الوقائع تشير بوضوح إلى وجود قوة تدفع به عكس الاتجاه الذي يريده، قوة تحاول
إقناعه بأن شعار "أميركا عظيمة مرّة أخرى" لن يتجسّد في هذه المرحلة من
التحوّلات العالمية العسيرة إلا بحرب ترتبط باسمه، حتى وإن لم تكن حربه، وحتى إن
اجترح هو نفسه حلولاً بديلةً لمواجهة عسكرية فعلية، وحتى إن قدّم له رئيس فنزويلا
ما يريده من ثروات بلاده من دون أن يضطرّ إلى القتال.
من لا يرى في هذا
الوضع الشاذ دفعاً متعمداً لأميركا في مستنقع قد لا تخرج منه سليمة، قد لا يفهم
لماذا أعلن ترامب فجأةً (مرّة أخرى) وقفَ طلبات الهجرة من العالم الثالث كلّها من
دون استثناءات، في خطوة تستبطن خوفاً شديداً من ردّات فعل المهاجرين، خصوصاً، على
أيّ عمل عدائي ضدّ فنزويلا التي تحبّها شعوب كثيرة.