محمد هنيد

في حلقة جديدة من حلقات التشويق الهزلي الكبير التي يخرجها قضاء الانقلاب المصري، أصدرت المحاكم المصرية قرارها بالحكم المؤبد على الرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي والحكم بالإعدام على ستة من إخوانه.
لن يكون مدار الحديث هنا عن مهازل القضاء المصري، لأنه ليس إلا جزءاً من مهزلة الانقلاب الكبرى في السياسة والاجتماع والثقافة والإعلام والعدالة.. وكل قطاعات الوطن المغتصب بسبب دولة الاستبداد العسكري التي تحكم القاهرة منذ عام 1952، بل مدار الحديث عن خلفيات الحكم ودلالاته الرمزية محلياً وعربياً ودولياً، وفي سياق ما بعد ثورات الربيع العربي ومآلاته الدامية بفعل شراسة الدولة العميقة.
التمكين للانقلاب
أنجز عسكر مصر في صائفة عام 2013 أحد أخطر الانقلابات في تاريخ الأمة الحديث، لأنه انقلاب على لحظة تدشين انتقال ديمقراطي حقيقي في دولة عربية نوعية هي مصر قلب الوطن العربي ونواته المركزية.
لا تتجلى هذه الخطورة في حجم المجازر التي ارتكبتها القوات المسلحة المصرية في حق المصريين العزل من المدنيين والنساء والأطفال والشيوخ، لأن توحش الأنظمة العسكرية العربية فاق كل تجارب الموت في التاريخ، مثلما يتجلى ذلك في سوريا وقبلها في ليبيا والعراق.
والانقلاب إذن لم يكن يستهدف جماعة «الإخوان المسلمين» أو أي فصيل سياسي أو اجتماعي آخر، بل هو أعمق من ذلك وأخطر، لأنه يستهدف التجربة المصرية بما هي نموذج لتجربة عربية مسلمة في سياق موجة سلمية من الثورات الشعبية العفوية. 
لم يكن للانقلاب أن ينجَز دون ضوء أخضر صريح من ثلاث جهات مركزية، أولها شرطيّ المنطقة المسلح بقواعده الممتدة على طول الكرة الأرضية وعرضها وهو ما يفسَّر بحجم الزيارات التي نفذها المسؤولون العسكريون المصريون إلى واشنطن قبل الانقلاب.
أما الجهة الثانية فتتمثل في القوى الإقليمية الواقعة على تخوم مركز الانقلاب، وهي الأنظمة التي ترى نفسها مهددة بنجاح التجربة المصرية، خاصة بالنسبة للكيان الصهيوني وإيران وبعض الدول الخليجية التي شاركت بشكل مباشر في ذبح التجربة المصرية، مرتكبة خطأ استراتيجياً قاتلاً تتجلى نتائجه اليوم في توغل المشروع الصفوي إلى قلب الجزيرة العربية في اليمن والبحرين.
ثالث الجهات المعنية بالانقلاب هي الدولة العميقة في مصر بما هي شبكة مترامية وقديمة من المصالح والامتيازات والنفوذ،وقد راكمت عبر ما يزيد من نصف قرن من تاريخ الدولة المصرية الحديثة جبالاً من الثروات والعلاقات والمنافع.
وعي سايكس - بيكو
تهمة «التخابر مع قطر» التي اختارها القضاء المصري أثارت على مواقع التواصل الاجتماعي عاصفة من السخرية والتهكم على المستوى الذي بلغه القضاء المصري وممثل العدالة في القرن الواحد والعشرين، في دولة تعداد سكانها يناهز المائة مليون نسمة.
لكن اللافت هو تواتر التعاليق التي تستغرب من تهمة التخابر بين دولتين عربيتين شقيقتين بمنطق النظام الرسمي العربي. كيف يكون التخابر مع قطر تهمة أو دليل خيانة؟ هل قطر دولة عدوة لمصر؟ هل تخابر الإخوة جريمة أم واجب حتمي؟
لسنا هنا في معرض الدفاع عن هذا الطرف أو ذاك، فهذا غير ذي قيمة، بل كل القيمة في كشف العمق العميق الذي بلغه وعي سايكس بيكو، بما هي الاتفاقية الأشهر في تاريخ العرب، حيث يمثل الحكم المصري أجلى تجليات هذا الوعي.
فتهمة «التخابر» بين بلدين ينتميان إلى نفس الأمة والحضارة ولا تفصل بينهما إلا خطوط استعمارية هي أرقى أنواع نجاح التقسيم الاستعماري نفسه.
نقول ذلك لأن التقسيم لم يعد فعلاً استعمارياً واقعاً على الأرض فحسب، بل أصبح فعلاً منتجاً للوعي الحارس للفعل على الأرض. أي بعبارة أبسط فإن النظام الانقلابي أصبح هو المنتج للوعي الحارس لما أنجزته المنظومة الاستعمارية وهو المانع لإلغائها. 
صحيح أن قطر تدفع ثمن وقوفها إلى جانب الثورات العربية كما تدفع إعلامياً ثمن رفضها لدعم الانقلاب على ربيع الشعوب كما فعلت دول عربية غنية أخرى قادرة على الدفع بسخاء من أجل منع نهضة الشعوب، وتحرر إرادة الانسان. 
صحيح أيضاً أن قطر دولة قابلة للنقد ككل دولة أخرى بما فيها جمهورية أفلاطون ومدينته الفاضلة، لكن الدرس العربي من الثورات السلمية العفوية الأخيرة يظهر مدى الأذى الذي لحق الدولة الوظيفية العربية الوحيدة بسبب خروجها عن الخط المرسوم لها ولغيرها سلفاً. 
ليس أدل على ما نقول من تصريحات حارس الملاهي السابق في مولدافيا وزير الحرب الصهيوني حاليا ووزير خارجيتها السابق الذي لا ينفك عن اتهام قطر بدعم الإرهاب، ويقصد به المقاومة ضده وضد كيانه الغاصب. 
تحالف الانقلاب مع الاحتلال 
المضحك في المحاكمة وما يمثل جانبها السريالي والهزلي العميق هو أن جهة إصدار الحكم «بالتخابر» مع دولة عربية مسلمة هي جهة متورطة علناً ليس بالتخابر فقط مع كيان هو ألد أعداء الأمة، بل بالتنسيق العلني معه والتباهي بذلك داخل المؤسسة العسكرية الانقلابية نفسها. 
لم يبلغ التنسيق الإسرائيلي المصري في السابق ما بلغه من العلنية خلال سنوات الانقلاب الثلاثة، حيث صرح كبار المسؤولين الصهاينة أن النظام الانقلابي «كنز استراتيجي إسرائيلي» على حد تعبير كبرى منصاتهم الإعلامية؛ إذ يتم هذا التنسيق على ثلاث جبهات أساسية، تتمثل الأولى في الإمعان المرضيّ في حصار قطاع غزة والتنكيل بالمقاومة الفلسطينية عبر قطع شرايين الحياة عنها من خلال إغراق الأنفاق ونسفها.
أما الثانية فتتجلى عبر تأصيل الفعل الاستبدادي ومنع كل إمكانات الحرية والعدالة والمساواة وتحقيق الشروط التي بها يكون الإنسان إنساناً في مصر بعد أن قارب وضع الأحرار هناك وضع العبيد في المجتمعات القديمة. 
هذا التأصيل هو الذي سيسمح بإبقاء الجبهة المصرية آمنة والحدود الصهيونية ساكنة، بقدر يمنع تهديد الكيان الغاصب، حيث لا يهتم المواطن المصري إلا بمحاربة غلاء المعيشة والتهاب الأسعار وتفشي الأمراض وانتشار الفساد بشكل لم يشهده التاريخ المصري من قبل. 
أما الثانية فتتجلى إقليمياً عبر جعل النظام الانقلابي امتداداً لأنظمة الوكالة الاستعمارية في المنطقة وسنداً للمشاريع الانقلابية الأخرى في الجوار الليبي أو في غيره، فعوض أن تكون القاهرة قاطرة الأمة وقلبها النابض ها هي تتحول إلى خاصرتها الدامية وجرحها الذي لا يندمل. 
لن نلوم النظام الانقلابي على مجازره ولا على جرائمه في حق النهوض العربي، فهذا شرط وجوده وهي المهمة التي خلق من أجلها.. لكن كل اللوم على النظام الرسمي العربي سواء بمؤسساته الجوفاء الباهتة كجامعة الدول العربية أو غيرها من الأبنية المتداعية. 
قد نستغرب أيضاً صمت مجلس التعاون الخليجي عن اتهام دولة عضو فيه بتهم سخيفة، لكن لن نستغرب غداً تمدد المشاريع الإمبراطورية الغازية لأرض العرب بسبب غياب العدل وتسيّد الباطل؛ فالظلم كما قيل قديماً «مؤذن بخراب العمران» كل العمران.