حازم عياد

المشهد في امريكا اقرب الى الحرب الأهلية في صورته العامة؛ فالنكسات التي تعانيها الفدرالية الأمريكية في الجانب الاقتصادي لم تسعفها السياسة الخارجية التي اعتمدت أسلوب الابتزاز لمعالجة الاختلالات؛ فاليابان كانت امام خيار المضايقة والعقوبات، أو تحويل اسهمها وسنداتها الى استثمارت في البنية التحتية الأمريكية؛ أما السعودية فكانت أمام خيار تجميد الأموال بتأثير من قانون جاستا أو استثمارها في أمريكا وتسييل أصول أرامكو وتحويلها إلى أسهم؛ أما قطر فكانت أمام خيار اتهامها بالإرهاب وتجميد أموالها والاستمرار بمضايقتها عبر الحصار أو تحويل صندوقها السيادي وأموالها إلى استثمارات في السوق الأمريكية أمر من الممكن ان يقود لتسييل أسهم شركة قطر للغاز أيضاً مستقبلاً، عملية ابتزاز لا تتوقف، فالسعودية فجاستا ليس نهاية المطاف، إذ ستواجه حقبة جديدة في اليمن عنوانها الوضع الإنساني، هذا ما يوحي به التدخل البريطاني وتعيين «غريفت» مبعوثاً للسلام.
ورغم ان ترامب حقق مكاسب كبيرة خلال العام الأول من حكمه، إذ جمع مليارات الدولارات من حلفاء أمريكا وأصدقائها، واعتمد أسلوباً مباشراً أكثر ممن سبقوه في الرئاسة الأمريكية، إلا ان لعنة الاقتصاد ما زالت تلاحقه، فقد خسرت مؤشرات الأسهم في يوم واحد خلال بضع ساعات أكثر من 4% من قيمتها؛ لتبلغ خسائر رجال المال والأعمال أغنى 500 رجل في أمريكا 114 مليار دولار في دقائق؛ علماً بأنه كان يريد توفير 400 مليار دولار عليهم من خفض الضرائب لتكون النتائج عكسية؛ فالهرم والشيخوخة لا تنجح معه مساحيق التجميل أو عمليات التجميل الخارجية كما يعلم الجميع.
فترامب على الرغم من سعيه لتخفيض الضرائب على أصحاب رؤوس الأموال وهم المصطلح على تسميتهم الـ 1% الا انه سبب لهم كارثة كبيرة وموجعة لأصحابه؛ المضحك ان خصومه وشبكات التلفزة في أمريكا كانت تعرض خطاب ترامب في أحد المصانع الكبرى التي احتفى فيها برفع رواتب الموظفين والمؤشر المتهاوي معروض على يمين الشاشة في مشهد أقرب ما يكون بالشماتة؛ هذا لا يعني انهم يملكون حلولاً أفضل ولكنها الشيخوخة الأمريكية التي يحاول ترامب تجديدها وتجميلها انتهت أخيراً بمحاولة مضحكة عنوانها عرض عسكري على الطريقة الرومانية القديمة، وأسلوب الكرملين في عهد غورباتشوف.
السياسة الأمريكية أصبحت ذات طابع فضائحي ونزقة ومتهورة إلى حد كبير، فالأمر لا يتعلق بترامب إنما ببنية دولة تواجهة تحديات غير مسبوقة بصعود الصين والتحدي الروسي والتمرد الأوروبي، فضلاً عن تمرد القوى الإقليمية التي لم تعد تنساق خلف الفدرالية الأمريكية بالسهولة المعتادة، مستثنياً طبعاً من لديهم قابلية للاستعمار والذين باتوا بحد ذاتهم لعنة لأمريكا، فهم من ناحية أخرى جعلوا أمريكا دولة لديها قابلية للاستنزاف أيضاً.
نزق أمريكا بات واضحاً في سوريا من خلال التورط في مهاجمة القوات الروسية كما بات واضحاً بطرح صفقة القرن البائسة واستنزاف حلفائها العرب وتعريضهم لمخاطر ربيع جديد، والأخطر البحث عن تحالف ناتو عربي صهيوني يخفف عنها أعباء الهيمنة المكلفة في المنطقة مذكرين المنطقة بحلف بغداد، علماً بأن هيجل وماركس قالا يوماً ان كل شيء يتكرر في الحياة مرتين، ولكن في المرة الثانية يكون هزلياً وسخيفاً، (هيجل هو أول من أشار في مستهل مؤلَّفه «الثامن عشر من برومير» إلى أن كل الأحداث الكبرى والشخصيات التاريخية تتكرر مرتين، وعقب عليه ماركس بقوله: «إن الأحداث والشخصيات إذا ما تكررت، فإنها تظهر في المرَّة الأولى على شكل مأساة، وفي المرَّة الثانية تظهر في شكل مهزلة»).
والأكثر غرابة نقلها لقواتها الى افغانستان وخصوصا المستشارين من العراق وسوريا، على أمل تخليق مشهد يشابه ما حدث عام 2014 في سوريا والعراق لخلق اقتتال داخلي في أفغانستان يريحها من عبء المواجهة المكلفة؛ فالمستشارون الأمريكان خبراء بتخليق هذه الحالة المجربة؛ أمر تتمنى واشنطن ان يتيح لها تخليق تحالفات جديدة على نمط التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب مثلاً، ومن الممكن أيضاً معاقبة الباكستان بتدعيش الحالة لتجد امتداداً لها داخل الأراضي الباكستانية فتجردها من أسلحتها النووية وتحالفاتها مع الصين ولتحل محلها الهند مثلاً.
الاستراتيجية الأمريكية مكشوفة إلى حد كبير، ولكنها فجة وتعتمد أسلوب البلطجة ولم تعد معنية بلغة الدبلوماسية الناعمة، في الظاهر ناجحة ولكنها في الباطن ستقود أصحابها بمرور الوقت لمواجهة مزيد من التحديات الإقليمية والدولية، فمشكلة أمريكا ليست في ترامب المسكين الذي تحول إلى مشجب للفشل يمكن التخلص منه بسهولة، إنما في تقادم وهرم امبراطوريتها وكثرة أزماتها الداخلية والخارجية، ولعل إحدى الأزمات المحرجة التي يجري التعتيم عليها من كافة الأطراف في أمريكا تصاعد الهجمات العنصرية على المدارس والأماكن العامة التي فيها مهاجرون، وكان آخرها مهاجمة مدرسة للمكسيكيين وقتل طالبين فيها وتفاخر القاتل بعنصريته ومن ثم انتحاره في عملية أشبه بالعملية الانتحارية ضد الأقليات؛ أمر نادراً ما تسمع عنه في وسائل الإعلام الأمريكية ولكنه بات حدثاً أسبوعياً أو شبه يومي.
في نهاية المطاف من يملك طول نفس استراتيجي وقدرة على المناورة سيجد فرصة كبيرة في المستقبل لاستعادة توازنه، والتخلص من ظل النفوذ الأمريكي الثقيل؛ فالمنطقة العربية لديها قابلية للاستعمار، ولكن أمريكا أيضاً لديها قابلية اكبر للاستنزاف.}