حازم عياد

الأزمة الدبلوماسية التركية الأمريكية ليست الأولى أو الأخيرة للدبلوماسية الأمريكية؛ إذ إنها تعبير آخر عن أزمة السياسة الخارجية الأمريكية وتخبطها بتأثير من الاضطراب الاستراتيجي والأزمة الداخلية، فقد سبقتها أزمة العلاقات الدبلوماسية مع روسيا والأزمة والتوتر في العلاقات مع الباكستان، وتفجر ملف الاتفاق النووي الذي يمثل حصيلة جهد دبلوماسي للخارجية الأمريكية، وأخيراً وليس آخراً الأزمة الخليجية والتعثر والعجز عن ايجاد مخرج مقبول لكل الأطراف الحليفة والصديقة للإدارة الأمريكية.
فالحسابات التركية الدقيقة والمتأنية على مدى أشهر سبقت الانفجار الدبلوماسي الكبير في التعامل مع الملف الكردي في سوريا والعراق ومسألة تسليم السلطات الأمريكية زعيم جماعة الخدمة (فتح الله غولن) المتهم بتدبير الانقلاب الفاشل في تركيا قابله تهوّر أمريكي بات واضحاً في إداء السياسة الخارجية الأمريكية أكثر من مرة وفي أكثر من ملف؛ إذ بات سمة أساسية في علاقاتها، لا مع تركيا فقط، بل مع القوى الدولية والإقليمية، مشككاً بكفاءة الدبلوماسية الأمريكية ذاتها؛ خصوصاً بعد توتير العلاقة الأمريكية الباكستانية ومحاولة ممارسة ضغوط على باكستان تهدد دورها الإقليمي وأمنها القومي وسلاحها النووي، إلى جانب توتر كبير في العلاقة مع طهران أفضى إلى إعلان إمكانية وقف العمل بالاتفاق النووي وتشديد العقوبات، وسبقها بشكل فاضح الأزمة الدبلوماسية مع روسيا أدت إلى تقليص البعثات الدبلوماسية والموظفين في كلا البلدين، والاستيلاء على المباني ومقرات الإقامة والترفيه الخاصة بتلك البعثات.
الأزمة الدبلوماسية التركية الأمريكية ليست استثناء بكشفها عن حجم الملفات المعقدة والخلافية بين الحليفين، وهي التي تعاني بدورها من أعباء متزايدة وخلافات عميقة أدت إلى تفكير الرئيس الأمريكي ترامب بحل «إبداعي» ينهي اللغط الإعلامي حول علاقته بوزير خارجيته تيلرسون يتضمن اخضاع  نفسه ووزير خارجيته لاختبار الذكاء للتأكد من صحة الأنباء المتداولة حول انتقادات لاذعة وجهها تيلرسون لترامب في غيابه؛ قال فيها إنه «أحمق»، فأزمة السياسة الخارجية الأمريكية لا تعبر بالضرورة عن استراتيجية ورؤية بقدر ما تعبر عن فوضى وتصارع بين مراكز القوى.
فالتصعيد الدبلوماسي بين واشنطن وأنقرة ترافق مع زيارة الرئيس التركي كلاً من إيران وأوكرانيا وصربيا؛ ذلك ان تصريحات الرئيس التركي حول الأزمة الدبلوماسية التركية الأمريكية جاءت في ذروة الانشغال و النشاط السياسي والدبلوماسي التركي في كل من البلقان ومنطقة الحزام الاوراسي.
وقد ألقت الأزمة بين واشنطن وأنقرة بثقلها على الدبلوماسية التركية النشطة، فالرئيس التركي أردوغان صرح من العاصمة الصربية بلغراد بالقول ان تركيا لم تكن المبادرة بوقف التأشيرات أو تفجير الموقف وتصعيده، داعياً الخارجية الأمريكية إلى إقالة السفير الأمريكي «جون باس» إن كان قرار وقف التأشيرات جاء دون مشاورة المسؤولين الكبار في واشنطن، الذين لم تنجح الجهود الأخيرة في التواصل معهم لإنهاء الأزمة قبل تفجرها، معلناً مقاطعة بلاده السفير الأمريكي وعدم اعتراف الحكومة التركية به وامتناعها عن تنظيم حفل وداعي له؛ إذ انه سيغادر إلى كابول كسفير هناك بعد أيام قليلة.
في المقابل فإن رئيس الوزراء التركي يلدرم لمّح أيضاً الى ان تركيا لم تكن المبادرة في تفجير الأزمة الدبلوماسية؛ في إشارة منه إلى اعتقال رجل الأعمال التركي من أصول إيرانية «رضا ضراب» التي سبقها بأشهر توقيف رجل الأعمال «زكي اكبال» الذي سرعان ما أطلق سراحه حينها.
توقيف «ضراب» حصل دون مشاورة الحكومة التركية أو موافقتها، ولم يفجر أزمة تأشيرات أو أزمة دبلوماسية كبرى حينها، فيما أدى اعتراض أمريكا على اعتقال مواطنين أتراك يعملون في القنصليات الأمريكية متهمين بتهم خطيرة تتعلق بالتجسس والتواصل مع فتح الله غولن في أمريكا، وهو المطلوب رقم واحد في حادثة الانقلاب الذي ترفض أمريكا تسليمه للقضاء التركي أطلق العنان لهذه الأزمة.
فتركيا اتهمت الموظف في القنصلية الأمريكية بالتواصل مع أكثر من 120 من المتورطين في الانقلاب والمعتقلين لديها، إلى جانب تواصله مع عدد من الفارين إلى الخارج؛ فيما استدعت موظفاً ثانياً للتحقيق وسعت إلى اعتقال ثالث تحصن بمبنى السفارة الأمريكية.
الناطقة الرسمية باسم الخارجية الأمريكية السيدة نويرت قالت رداً على الاتهامات التركية بأن «هؤلاء الأفراد الثلاثة يعملون على قضايا إنفاذ القانون وكجزء من عملهم، يطلب منهم الاتصال بالمسؤولين عن إنفاذ القانون والمحققين الآخرين، وعندما تبدأ حكومة تركيا التشكيك في قدرة موظفينا المحليين على القيام بذلك، يصبح لدينا بعض الأسئلة الخطيرة جداً حول هذا الموضوع».
الأزمة الدبلوماسية بين أمريكا وتركيا باتت ككرة الثلج المتدحرجة التي جمعت في طريقها كل الملفات العالقة بين البلدين، على رأسها ملف الانقلاب وتسليم فتح الله غولن وملف العلاقة التركية الإيرانية وملف الأزمة الكردية والأزمة الخليجية والتطورات الإقليمية المرتيطة بالملف السوري، إلى جانب التطور الاستراتيجي في العلاقة التركية الروسية التي توجت بتوقيع اتفاقية شراء منظومة الدفاع الجوي «اس 400» الروسية.
فأزمة العلاقات الأمريكية التركية لم تعد تقتصر على سوريا وإيران وكردستان العراق والأزمة الخليجية وروسيا في غرب آسيا، بل تمتد إلى ملفات عديدة تراها واشنطن مزعجة في المرحلة الحالية، ملفات ما كان لها ان تكون لولا الموقف السلبي الأمريكي من عدد من الملفات المشتركة والخذلان المستمر للأتراك على مدى الأعوام السابقة، معززة الشكوك والفجوة بعد المحاولة الانقلابية في تموز العام الماضي، إلى جانب الدعم الكبير للأكراد الانفصاليين في سوريا.
واشنطن لم تظهر أي رغبة في المبادرة وتخفيف التوتر أو تصحيح المسار الاستراتيجي في العلاقة مع تركيا، بل ذهبت بعيداً في تفجير مزيد من الأزمات واحدة تلو الأخرى، مفاقمة من حجم الضغوط على العلاقات التركية الأمريكية؛ فأنقرة إزاء شعورها بالتهديد لم تتوان عن المبادرة بردود قوية على الاجراءات الأمريكية الدبلوماسية شملت وقف اعطاء التأشيرات للمواطنين الأمركيين، فرغم الكلفة الاقتصادية الكبيرة المتوقعة لهذا الاجراء الذي يتهدد العلاقة الاقتصادية والتجارية التي فاق حجمها هذا العام 17 مليار دولار على شكل تبادل تجاري، إلا ان تركيا فضلت المواجهة على التضحية بأمنها القومي؛ فـ 17 مليار دولار مبلغ زهيد إذا ما قورن بحجم الأضرار التي ستلحق بتركيا ان تنازلت عن مصالحها ورؤيتها الاستراتجية والأمنية، والأهم ان بالإمكان تعويضها بتطوير العلاقات مع الصين وروسيا وعدد من القوى الاقتصادية الدولية والإقليمية الصاعدة؛ مسار رسمته الولايات المتحدة من خلال مراكمة الأخطاء الإدارية والبيروقراطية والقانونية، وليس من خلال استراتيجية واضحة المعالم ومحسوبة سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً على الأرجح.}