العدد 1671 /9-7-2025
أسامة علي
لقرابة
عقد من الزمن ظل اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر القائد العسكري المهيمن على
كامل شرق البلاد وأغلب الجنوب، يعاني عزلة دولية، فيما كان المجتمع الدولي يمنح
اعترافه لحكومة الوحدة الوطنية في طرابلس بوصفها سلطة شرعية وحيدة، على الرغم من
منح مجلس النواب ثقته للحكومة الموجودة في بنغازي مركز سلطة حفتر.
ومع
مطلع العام 2023 اتجه خليفة حفتر لبناء استراتيجية تُظهر تخليه عن الاعتماد شبه
الكلي على القوة العسكرية، والبدء في تدشين حملة اتصالات دبلوماسية واقتصادية
لتفكيك طول العزلة، وبناء شبكة علاقات خارجية، أوسع من تحالفاته التقليدية
السابقة، لتمنحه هامشاً للمناورة تفوق قدرة الحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس،
أو على الأقل تقويض شرعيتها، بإثبات قدرته على العمل المباشر مع العواصم الفاعلة
بشكل مستقل عنها.
هدف
خليفة حفتر من تحركاته
ومن
خلال تحركات خليفة حفتر يبدو واضحاً أن هذه الاستراتيجية تقوم على أساسين، أولهما
خطاب اقتصادي جاذب للاستثمارات وعقود البناء الضخمة، وثانيهما تحالفات عسكرية
وأمنية مع قوى إقليمية ودولية مؤثرة. ووسط ذلك هدف عميق يظهر في توزيع الأدوار بين
أبرز أولاده، والذي تجلى في النمط الجديد لزياراته الدولية والإقليمية مؤخراً،
فيما يشبه إعلانا ضمنيا عن نظامه الجديد.
ورغم
بدء إبراز أولاده في مناصب عسكرية مهمة عامي 2023 و2024، وظهوره المتعدد داخلياً
برفقتهم في مناسبات كثيرة خلال العام الماضي، إلا أنه ظهر لأول مرة وبرفقته صدام،
آمر القوات البرية، وخالد آمر القوات الأمنية، خلال زيارته إلى العاصمة
البيلاروسية مينسك في فبراير/شباط الماضي، ولاحقاً في مايو/أيار الماضي خلال
مشاركته في احتفالات عيد النصر في موسكو وبرفقته صدام وخالد، وأخيراً نهاية الشهر
الماضي في القاهرة برفقة صدام وخالد، وأيضاً بلقاسم مدير "صندوق التنمية
وإعادة إعمار ليبيا"، وكلها كانت تحمل رسائل واضحة على توريث السلطة وترسيخ
النفوذ العائلي.
وتُعبر
الزيارات الثلاث عن مضامين علاقة خليفة حفتر مع حلفائه. وفيما كانت زيارته لمينسك
بطابع عسكري للدلالة على توثيق العلاقة مع روسيا عبر حلفائها الأبرز، وتحديداً
بيلاروسيا، كانت زيارته إلى القاهرة تحمل مضموناً بتنشيط تحالفه القديم مع مصر
ومحطة للتنسيق الأمني والعسكري حول الحدود، وسياسي في الملف الليبي، واقتصادي عبر
تعزيز توقيع عقود بالمليارات في الإعمار والبناء.
واللافت
في استراتيجية خليفة حفتر الجديدة أن قلبها يقع في تصدير أبنائه سفراء ومفاوضين في
العواصم الدولية والإقليمية، أبرزهم صدام الذي ظهر في زيارات للعديد من العواصم
المؤثرة في الملف الليبي مؤخراً، أبرزها زيارته لأنقرة في إبريل/نيسان الماضي، حيث
جرى له خلالها استقبال عسكري رسمي. ونهاية الشهر ذاته زار واشنطن والتقى كبار
مسؤولين في البنتاغون. وفي مطلع يونيو/حزيران الماضي زار باريس وروما، وأخيراً
القاهرة نهاية يونيو الماضي. وإن بقيت تفاصيل هذه الزيارات غير معلنة، إلا أن مجرد
إجرائها وبشكل رسمي يبرز وجهاً جديداً في استراتيجية والده في مساعيه لبناء خريطة
تحالفات تخترق العزلة الدولية.
وفيما
حملت زيارات صدام خطاب تحالفات عسكرية واضحة، برز خطاب آخر في استراتيجية خليفة
حفتر الجديدة، وهو خطاب الاقتصاد والاستثمار، الذي يبرز فيه نجله الآخر، بلقاسم
الذي يترأس "صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا" ويمثل الوجه الاقتصادي
لحفتر. ورغم أن بلقاسم نجح في عقد صفقات مع شركات تركية ومصرية، التي بدأت في
العمل على مشروعات بناء ضخمة في مناطق شرق البلاد، إلا أن طموحه يبدو أكبر من خلال
زياراته الكثيفة لعدة عواصم دولية، منها واشنطن ولندن وباريس. ورغم أن هذه العواصم
الأخيرة لم تبد أي تجاوب كبير مع مساعي بلقاسم، إلا أن اللافت في حراكه وجود
اتصالات غير معلنة، فقد كشفت مدونة "سينوساج" على منصة سبستاك، الأحد الماضي، عن مفاوضات متقدمة بين
الصين وبلقاسم حول حزمة استثمارات ضخمة في شرق البلاد، منها إنشاء مصفاة نفط
عملاقة في طبرق وتطوير ميناء طبرق ومطارها، ومد خط سكة حديد عالي السرعة لربط طبرق
وبنغازي بمصر، وإنشاء مصرف ليبي للطاقة والتعدين بتمويل صيني، ومشاريع مع شركة
هواوي لبناء شركة اتصالات مستقلة عن الشركة الحكومية في طرابلس.
وضمن
استراتيجية خليفة حفتر كما يبدو اهتمام متزايد بتوفير الظروف الأمنية المناسبة
للعمل في بناء المنشآت الاستثمارية والعسكرية، وهو ما يظهر في تصديره لنجله الثالث
خالد، الذي يعد الأقل ظهوراً بين أولاده، لكنه يتولى رئاسة أركان القوات الأمنية
التي تملك انتشاراً واسعاً في مناطق شرق البلاد. وعبر هذه المسارات الثلاثة كان من
الواضح أن خليفة حفتر يرسل رسائل واضحة بشأن قدرته على إدارة علاقات دولية بشكل
مستقل عن الحكومة المعترف بها دولياً، خاصة وأن حكومة مجلس النواب، الخاضعة
لسيطرته، بدأت فعلياً في الارتباط بعلاقات معلنة مع بيلاروسيا، حيث إن رئيس
الحكومة أسامة حماد زار، على رأس وفد، مينسك في 30 يونيو الماضي، افتتح خلالها
قنصلية ليبية في العاصمة البيلاروسية وناقش تفعيل مذكرات تفاهم بين الجانبين في
العديد من المجالات.
السلاح
قوة حفتر
وعلى
الرغم من هذا النشاط في الاتصالات الكثيفة في الخارج، إلا أن أستاذ العلاقات
الدولية موسى احباره يرى، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن خليفة حفتر لم
يتخل عن جوهر قوته وهو السلاح، لافتاً إلى أن أبرز أولاده حراكاً في الخارج هو
صدام، القائد الفعلي لأكبر قوى والده، ما يعطي زياراته وزناً دبلوماسياً، خاصة في
العواصم التي زارها والتقى فيها كبار المسؤولين العسكريين. وحول تعارض زيارات صدام
لواشنطن وباريس وروما مع تحالف والده مع موسكو، فيرى احباره أن ارتباط حفتر
بالقاهرة وموسكو وأنقرة لا يهدف للحصول على الدعم العسكري، وأقله التدريب، بل يهدف
أيضاً إلى القول للغرب إن معسكره يستحيل تجاهله ويتوجب الاعتراف به أيضاً. ويرى
احباره أن في مضامين خطة خليفة حفتر محاولة لكسر احتكار الأمم المتحدة للعملية
السياسية في ليبيا واتجاهات خططها لتسوية أزمتها، فحفتر يسعى لبناء شرعية موازية
لطرابلس تقوم على تحالفات دولية من خلال الاستثمارات الضخمة والتعاون العسكري،
بدلاً من انتظار الاعتراف الأممي، وبمعنى أدق يحاول صناعة أمر واقع ليؤكد أنه طرف
لا يمكن تجاوزه.
ويحدد
عبد المولى مخاوفه في أن توسيع حفتر لشبكاته الإقليمية والدولية دون احتساب
مخاطرها، قد يقود البلاد إلى أزمات حادة، بالإضافة لمخاطر العقوبات الغربية إذا
ثبت وجود مفاوضات لإدخال الصين شريكاً جديداً في شرق البلاد. ويعتبر أن انخراط
خليفة حفتر في قضية اتفاق ترسيم الحدود البحرية الموقع بين تركيا والحكومة في
طرابلس قبل سنوات، بالضغط على مجلس النواب للمصادقة عليه رسمياً مقابل حصوله على
دعم سياسي وعسكري تركي، سيجر البلاد إلى مستنقع خلافات دول حوض المتوسط، المتنازعة
على مناطق مصادر الغاز والطاقة، وأقلها عقوبات أوروبية على البلاد.
هذه
الضغوط هي التي دفعت خليفة حفتر للمراهنة على تناقضات القوى الكبرى، بتقديم نفسه
طرفا لا غنى عنه، بحسب رأي عبد المولى، الذي يعتبر أن أسس استراتيجيته المبنية على
أولاده لن تستطيع التماهي مع الرغبات الدولية، ما يهدد بانهيار هذه الاستراتيجية،
وإدخال البلاد في موجة تعارض المصالح الدولية قد تتصاعد وتنفجر في أي وقت، فروسيا
تراه شريكاً عسكرياً، وتركيا تعتبره بوابة لثروات المتوسط، وأميركا وحلفاؤها
الأوروبيون يتعاملون معه أمرا واقعا وبحذر، فيما يبدو أن مصر تتعامل معه بتوجس كما
يظهر في مسار علاقتها المتوترة معه.