العدد 1410 / 22-4-2020

حلمي الأسمر

قبل اجتياح الجائحة الكورونية بأشهر، كنت أتجادل مع صديق بشأن وجود إحساس أو حدس داخلي لدي، بأن ثمة حدثا كبيرا سيقع، سيغير شكل الأرض، ويحرف الحدث الدولي نحو منحنىً يعيد التوازن إلى العالم الذي تتحكم بمصيره عصبة من رجال الأعمال والبنوك وتجار السلاح والمخدرات، والأدوية والأمصال (أيضا)، وحينما وصل إلينا الفيروس (يحلو لترامب أن يسميه الفيروس الصيني) بدا أن هذه العلقة التي لا تنتمي لعالم المخلوقات الحية، ستكون هذا الحدث الكبير، لأنني، وغيري كثر، لم نكن نتخيل أو نتوقع حجم الجائحة، ومدى "توحشها" بعد أن فرضت حظر تجول على أكثر من نصف سكان الكرة، وقرّرت في لحظة وقف حركة الطيران، والسياحة، والترفيه، وأعطت إجازة "مفتوحة" للغالبية الساحقة من أصحاب النشاطات الاقتصادية الأخرى، ولم يبق على قيد العمل غير الكوادر الصحية ورجال الأمن، والإعلام، وبعض القطاعات التي تساندهم.

من الصعب على كاتب هذه السطور أن يبوح بما باح به، إذ إن كاتبا صحافيا يعتمد على تحليل الأحداث واستبطانها، للخروج بالنتائج، وقراءة خطوط المستقبل، لا يمكن أن يرتكز في كتاباته على حدس داخلي، وإحساس مبهم، ولكن المفاجأة التي ألجمت كبار المحللين المفوّهين، وعلماء المستقبليات، والسياسة، والطب، واللقاحات، وسببت أرقا غير محدود لهؤلاء كلهم، سمحت بالبوح بهذا الشعور الداخلي، ليس لأنه مجرّد "شعوذة" وضرب بالغيب، بل لأنه يستند إلى إيمان عميق بأن خالق هذا الكون، وهو العادل عدالة مطلقة، يمكن أن "يسمح" للمهزلة الجارية على سطح الأرض بالاستمرار إلى ما لا نهاية، بل إن العدل من أسماء الله الحسنى، فكيف يتسق كل ما يجري في دنيا الإنسان من ظلم وظلمات مع عدل خلق كل شيء وتحكّم به تحكما مطلقا، وكل شيء عنده بمقدار؟!

أول المآخذ التي قد يطلقها قارئ هذه السطور وقد خطر ببال الكاتب قبل أن يخطر بباله: كيف

"عملاء الموساد يجوبون العالم لشراء المواد الطبية، خصوصاً من السوق السوداء، ولا يستطيعون الحصول عليها"يكون هذا "الحدث" مدعاة لإعادة تصحيح الاعوجاج في ميزان العدالة على سطح كرتنا المنكوبة بالظلم، والفيروس اللعين يصيب الكل، مؤمنا أو غير مؤمن، شيوعيا اشتراكيا أو رأسماليا متوحشا، مسلما كان أو مسيحيا أو يهوديا؟ غنيا أو فقيرا؟ وهذا سؤال مشروع، ولكنه يستدعي صورة الكوارث الأخرى التي ضربت البشرية، ولم تستثن أحدا، كالزلازل والبراكين والفيضانات، فهي لم تأت لتقيم "العدل" بين الناس، بل لدواعٍ أخرى متعلقة بإعادة تشكيل الصورة. ويمكن العودة قليلا إلى سنن التدافع الحضاري وحركة التاريخ، كيف قامت حضاراتٌ ومدنياتٌ سادت ثم بادت، وكيف انتقل مشعل قيادة العالم من حضارة إلى أخرى، وكيف لم تستأثر حضارة ما بحمل مشعل القيادة إلا مدة محددة، طالت أم قصرت، فأين مثلا حضارات ما بين النهرين، والإمبراطوريات الرومانية والفارسية وإمبراطوريات القياصرة، ومن قبلهم وبعدهم، أين الحضارة الفرعونية والإمبراطورية الإسلامية؟ أين ذهب كل هؤلاء وأولئك؟ وكيف سادوا ثم بادوا؟

لو عدنا قليلا إلى استنطاق الأحداث في القرنين الأخيرين، لرأينا أن ثمّة جبروتا مارسه الغرب، إذ سيطر على مفاصل الحياة على الأرض، وجعل معظم ثرواتها تصب في جيوب عدد محدود من الدول والناس، وأن "عصابة" صغيرة من "المنتصرين" وضعت قانونا دوليا يضمن هيمنتهم على مقدّرات الأرض، (قوانين الملكية الفكرية، منظمة التجارة الدولية، القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وتشكيلة مجلس الأمن وحق الفيتو، والبنك الدولي، واصطلاح الدولة المارقة، مارقة على من؟ .. إلخ) وحتى أنهم قسموها بينهم، باعتبارها من ممتلكاتهم، ولا أدل، مثلا، على تسمية نصف الكرة الجنوبي بتسميات أقل ما يقال فيها أنها عنصرية، لأنها ارتبطت بوجودهم باعتبارهم (أي الغرب) هم مركز الأرض، وغيرهم: شرق أوسط، وشرق أقصى، وشرق أدنى.

الأخطر من هذا كله أن هذا "النظام" الدولي جعل من كيان عنصري مجرم "درّته" المصون، و"دلوعته" التي يغفر لها كل إجرامها، بل سنّ قوانين بشعة تُحرم انتقادها أو ضربها ولو بوردة، تحت مسمّى قوانين اللاسامية، فلا يقوى أي زعيم، مهما بلغ جبروته، أن يمسّها بوصف، وإن فعل حلت لعنات عليه، بل إن على من يريد أن يعتلي الحكم في بلاده عليه أن يمتلك سجلا "نظيفا" في تعامله مع إسرائيل، وإلا فلن يحلم هو أو حزبه بأن يجلس على كرسي الزعامة في بلده، ناهيك عن تسابق "الجميع" إلى حرق البخور في طاعة "الأزعر"، ووسم كل من يدوس على طرفه بالإرهاب واللاسامية، وهو "جرم" غدا سيفا مسلطا على رقاب الكل، وكل من تحدّاه رمي بالمروق! قلب فيروس كورونا المعادلة، أو قل "دمّرها"، لأنه اجتاح الكل، وخصوصا سدنة النظام الدولي، هذا "النظام" الدولي جعل من كيان عنصري مجرم "درّته" المصون" ومركز السيطرة على العالم: الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ولأول مرة في التاريخ كله، تطلب إسرائيل سلعة ولا تستطيع الحصول عليها، فعملاء الموساد يجوبون العالم لشراء المواد الطبية، خصوصا من السوق السوداء، ولا يستطيعون الحصول عليها، بعد أن رفضت "الدول الراعية" لها بيعها، ولسان حالها: انج سعد فقد هلك سُعيْد. عالم ما بعد كورونا (إن كان له بعد!) لن يشهد فقط تفكك الاتحاد الأوروبي، وفقدان الولايات المتحدة زعامتها، ولا انهيار الرأسمالية المتوحشة، كما انهارت الشيوعية من قبل، بل سيكون لدينا عالم جديد، هو في طور التشكل، وبداية حقيقية لانتهاء "إسرائيل" ابنة العالم المدللة، وسيسبق هذا حقبة من الفوضى الكونية العارمة، قد تتخللها حروب ونزاعات طاحنة، وستكون "إسرائيل"، على نحو أو آخر، هي الخاسر الأكبر في كل هذا المشهد.