د. علي العتوم

تُهدِّد أمريكا على عهد رئيسها العنصري ترامب، في هذه الأيام بإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، إِنْ لم يَكُفَّ أبناءُ فلسطين عن تقديم ملفات الشكوى على الكيان الصهيوني للمحكمة الدولية، بسبب اعتداءاته الإجرامية المتكررة على أهلنا هناك، ويسعوا للمفاوضات الكاملة والمباشرة مع هذا الكيان الغاصب، ومن ثَمَّ الاعتراف به دون أنْ يُثيروا أي عمل يُعكِّرُ صفوه ويُكدِّر خاطره!!
ومعلومٌ أن هذه المنظمة جَهِدَ أبناء فلسطين على مدى عقود من الزمان لإنشائها ولَقُوا في طريق ذلك مضايقات ومنغِّصات، وقد تكون طارت لقيامها رؤوس كبيرة، ومع ذلك فقد يكون قيامها في وضعٍ عربي متراجع ومتناكر ذي سلبيات كبيرة وخطيرة، منها بدايةُ تخلِّي الدول العربية عن واجباتها في تحرير فلسطين، وإلقاء مسؤولية ذلك على أبنائها وحدهم وحيلتهم فيه محدودة، ومنها كذلك وقد يكون الأهمَّ، عَدُّ هذه القضية وهي في الأصل إسلامية، قضيةً عربية أو فلسطينية أو حتى فصائلية، وحسبُ!!
ومن المَقاتِلِ في هذا المجال، وقد يكون ذلك من أسباب وهْنِ المنظمة وجمودها، أنها غَدَتْ عاجزة عن تقديم أية خدمات ناجعة لقضية فلسطين، ولعلَّ هذا بتخطيط غربي وعربي، أن أصبحت فئةٌ واحدة، هي منظمة فتح التي تخلَّت عن سلاح المقاومة وقَبِلَتْ بالجلوس مع الغاصب على طاولة مفاوضات عبثية، المسؤولة الوحيدة عنها بدعمٍ من الدول العربية، إذ أنها عندهم – وهنا مكمن الخطورة إِنْ لم يكن المؤامرة – الممثل الشرعي والوحيد لأبناء فلسطين وقضيتهم برمَّتها، ما يعني بالتالي أنه لا يُقبَل بأي فئة فلسطينية غيرَها، بالتحدُّث عن فلسطين وقضيتها!!
وسقطت القضية يوم أن قبلتْ منظمة فتح بسلطة ضمن دولة الاحتلال دون أن تُحرِّر شبراً واحداً من البلاد بالسلاح الذي نادتْ به حلّاً وحيداً لتحرير فلسطين، أو أن يكون لها في هذه السلطة أية إرادة حرة في العمل والتحرك وحتى الكلمة!! ومن ثَمَّ اعتقدتْ هذه المنظمة أو أقنعتْ نفسها توهُّماً أنها ذاتُ سُلطة، وجادلتْ عن ذلك، بل دافعت عنه بالقوة مقابل بريق المال والجاه والمنصب، وما عاد لإخوة الموطن أو الدين أو القوم مكان شراكة أمام هذه القناعات الخادعة. ونجح ناصبو الحبال من يهود وغرب وعرب في ترسيخ هذه المعاني المغشوشة في أذهان أهل هذه الفئة!!
ولا شك في أن هذه الفئة المُستأْثِرَة بالمنظمة عندما قَبِلَتْ بما خُطِّطَ لها ووقعتْ في الشَّرَك، سَهُلَ التلاعب بها: كياناً ورئاسة وأتباعاً وسياساتٍ وأفكاراً، بعد أن أوهمتْ نفسها أن اسم السُّلطة ومديريها ومؤسساتها ومكاتبها داخل الأرض المحتلة وخارجها، إنما هي عناصر قوَّتها وأسبابُ حياتها، بعد أن جاء كل ذلك على عين المحتل وبرضاه. ولذلك راحت تدافع عن هذه الهياكل بشراسة، وتسعى جاهدة ألاّ تُشرِكَ غيرها معها فيها، مخافة التنغيص عليها لذَّةَ سُباتها العميق، وتصريد حلاوة نشوتها المكذوبة. ومن هنا جاء تهديد أمريكا هذه الأيام بإيصاد مكتبها في العاصمة الأمريكية، إن لم تخرس عن بعثِ ملفّاتٍ حساسة، أو تستسلم للكيان الصهيوني أيَّما استسلام!!
ولا مِراء كذلك أنّ اليهود ومَنْ ساعد على إيجادهم في ديارنا كياناً غاصباً من دول الغرب خاصة وفي مقدمتهم الإنجليز والأمريكان، يدركون تمام الإدراك أنه لا يُخيفهم إلا سياسة المقاومة المسلّحة، مما هو بلغتنا الإسلامية الجهادُ في سبيل الله، الذي لم يَخِبْ أصحابُه على مَرِّ التاريخ مرة، إذ هو ذروة سَنام الإسلام، أو ما عبَّرَ عنه أبو تمام يوماً بقوله: (السيفُ أصدقُ أنباءً من الكُتُبِ)، ولذلك تُركِّز هذه الدول المشتركة بجريمة اغتصاب فلسطين واشياعهم من أبناء جلدتنا، على الدوام بوجوب نزع سلاح المقاومة والجلوس إلى طاولة المفاوضات مع اليهود!!
ولو عَلِمَ الأمريكان ومَنْ يدور في فلكهم، أنّ أبناء فلسطين خاصةً أو أبناء العرب والمسلمين عامة، أو أكثرية هؤلاء وهؤلاء، يتبنَّوْنَ نهج المقاومة المسلّحة لما جَرُؤَ ترامب وغيره على أنْ يهدِّدُوا بإغلاق مكاتب المنظمة عندهم، إلّا أَنْ يعلم أنََّ أصحاب هذه السلطة التي لا سُلطة فيها ومعهم ردفاؤهم من العرب، باتوا يظنون أن المكاتب شيء كبير في شأن القضية، أو عناصر قوة بسلطتهم الخائرة!! وإلّا فمتى كان أصحاب أية قضية شريفة كقضية فلسطين يُؤمِّلون أن مكاتب مهزوزة داخل ديار عدوِّهم لهم فيها خير؟! إنّ صاحب القضية الصادق هو الذي يجعل من صدق إيمانه ونزاهة قضيته ونجاعة سلاحه، الوسيلة الأولى في نجاح قضيته ومدافعة خصومه عنها.
إنَّ الذي يكاد يخنُق العَبَرات في النفس أن بعض أبناء القضية الرائجةَ بضاعتُهم في سوق سياسة الخداع اليوم ومعهم الكثيرون من زعماء العرب، يقفون حجر عثرة في طريق المقاومة المادية أو حتى السلبية التي تطالب بها بعض الفصائل الفلسطينية الجادّة أو الجماعات الإسلامية الصادقة في بلاد العرب والمسلمين، وهم يعلمون أنّ الشعار الذي ساد في بلادنا في الخمسينات والستينات من القرن المارّ: (أنَّ ما أُخِذَ بالقوة لن يستردَّ إلّا بالقوة)!! وهل فُتِحَتِ القدس في العقد الثاني من الهجرة على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلا بعد الانتصار على الرومان في: اليرموك وأجنادين، وهل حُرِّرَت من أيدي الصليبيين زمان صلاح الدين إلّا على إثر الفوز في معركة حطين؟!
إن التاريخ سيكتب في أطوائه أنّه لم يمرَّ على هذه الأمة هبوط كما يمر عليها في هذا العصر الذي استكانت فيه الزعامات العربية وأصحاب الأفكار الدنيوية في بلادنا لقوى الشر وتخلَّوْا عن القضية إلّا من رَحِمَ الله. أجل، إنها لسطور سود ستدوَّن في صفحات التاريخ لشعوب هذه الأمة وزعاماتها لم يمرَّ مثلُ سوادها، لا زمان إحراق البصرة على يد الزِّطّ ولا زمان تدمير  بغداد على يد التتار ولا زمان الحروب الصليبية وقتل سبعين ألفاً من المسلمين في المسجد الأقصى!!
ثم متى كان لهذه الدول الأجنبية أن تهدد المسلمين، وقد كانت إلى وقت قريب تدفع إليهم الجزية عن يد وهي صاغرة بمَنْ فيهم الأمريكان؟! ومتى كان لليهود أذلِّ خَلْق الله أن يهدِّدونا في عُقْرِ دارنا، وهم الذين كانوا أهربَ من الأرانب وأفرَّ من الفئران أمام قوانا الإيمانية؟!
أيها الحكام العرب وأيتها المنظّمات الفلسطينية وغيرها، اتَّقوا الله في شعوبكم وأوطانكم ودينكم، فالتاريخ لا يرحم ولا ينسى، واعلموا أنّ التفريط بفلسطين تفريط بالحجاز ومقدساتها. وأنتم يا إخواننا في السلطة لا تهولنّكم تهديدات أمريكا وغطرستها، فالقضية قضية إيمان وتصميم. فإذا أردتم الصُّلح الحقيقي مع إخوانكم الفصائل الأخرى، فافتحوا ملفّ المنظمة وأشْرِكوا غيركم بالمسؤولية فيها، وإلّا فأنتم لا تريدون الصلح ولا الانتصار لقضيّتكم.
وأنتم أيها الأمريكان، اعلموا أنّنا لن نتنازل عن أي جزئية في ديننا ولا عن ذرّةٍ واحدة من تراب مقدساتنا، ولن ترهبنا تهديداتكم، فإنّ إغلاق مكاتبنا إِنْ أُغلِقَتْ ليس نهاية المطاف، فإن أغلقتموها فإنّ لنا في كل أرض مكاتب، وهي إن لم تكن على الأرض ففي قلوبنا وبين جوانحنا، وتعلّموا أننا لن نتخلى عن سلاحنا، إلا إذا تخلت الأسود عن الزئير أو الخيول عن الصهيل أو الحمحمة، وأيقنوا أن الأيام دُوَل والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين، والله أكبر >وللهِ العِزّةُ ولرسولِهِ وللمؤمنين، ولكنّ المنافقين لا يعلمون<...}