العدد 1667 /11-6-2025

أحمد الجندي

برز اسم ياسر أبو شباب في الشهرين الأخيرين متزامناً مع إنشاء ما بات يُعرف باسم مؤسسة إغاثة غزّة، في محاولة إسرائيل التخلص من سيطرة حركة حماس المدنية والعسكرية على للقطاع، وإيجاد بديل فلسطيني موال لها، ويوفر عليها أية خسائر بشرية يمكن أن تتعرّض لها مستقبلا. وقد ظلت إسرائيل تحتفظ بسرّية دعمها مليشيا "أبو شباب"، التي أطلقت على نفسها تسمية "القوات الشعبية"، إلى أن أعلن رئيس حزب إسرائيل بيتنا، عضو الكنيست، أفيغدور ليبرمان، قبل أيام أن إسرائيل هي التي تقف خلف هذا المشروع وتسلح هذه المجموعات، ليُفتح نقاش موسع في طبيعة هذه المجموعات ودورها والغرض من تأسيسها. وقد ركّز معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب، على كشف تاريخ أبو شباب الإرهابي في تهريب السلاح إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سيناء، رغم عدم تبنّيه أيديولوجية التنظيم، وتورّطه بالتالي في الإضرار بالأمن القومي المصري، علاوة على ضلوعه في تجارة المخدّرات داخل القطاع. وحسب مواقع عبرية، وعربية، يبلغ عدد أفراد المليشيا الجديدة بين مائة وثلاثمائة عضو، وتشمل ضباط أمن فلسطينيين سابقين، أبرزهم غسّان الدهيني، وتعمل تحت إشراف الجيش الصهيوني.

ويهدف المشروع الذي أسّسه الجيش الإسرائيلي إلى "تطهير" مناطق محدّدة داخل القطاع، بدأت في رفح جنوب غزّة، وإنشاء جيب فلسطيني آمن بعيداً عن أيدي المقاومة، وجعل هذه المناطق نقاط توزيع للمساعدات تحت حراسة مليشيا أبو شباب، وتوظيف ورقة المساعدات الإنسانية لقطع حلقة الوصل بين حركة حماس وسكان القطاع. وتعتمد الرؤية الإسرائيلية على تجربة سابقة نفذتها الولايات المتحدة في شرق سورية، حين أسّست الأخيرة ما باتت تُعرف باسم قوات سوريا الديمقراطية (SDF) بطريقة مشابهة للعمل ضد تنظيم الدولة هناك، والتي تمكنت من إنهاء اعتماد السكان المحليين شرقي سورية على تنظيم الدولة، ثم عقدت لاحقاً اتفاقاً مع نظام الأسد تتضمن بنوداً تدمج المليشيا في مؤسّسات الدولة الرسمية.

ويرى المستشرق الإسرائيلي والخبير في الشأن الفلسطيني، يوني بن مناحيم، في مقال بعنوان "ياسر أبو شباب ضد حماس؛ دراسة حالة لفشل الاستراتيجية الإسرائيلية في غزّة" أن طبيعة المذكور تعكس حالة الفوضى، والتفكّك والتعقيد في حالة النظام في القطاع في ظل الحرب الدائرة، كما أن الفارق الشاسع بين محاولة تلميعه وجعله "قائداً شعبياً"، وحقيقة تورّطه في أعمال نهب واتّجار بالمخدّرات في غزّة، علاوة على تخابره مع الاحتلال، يظهر كيف ينعدم الفرق بين مليشيا محلية وقوة إجرامية وبين حامي المدنيين ومجرم الحرب. ويكتب بن مناحيم أن إسرائيل التي نجحت في التوغّل جغرافيا في غزّة فشلت في إيجاد بديل موثوق لحكم "حماس"، ومن ثم فإن بروز مليشيا أبو شباب يعكس هدف إسرائيل الاستراتيجي المتمثل في تفكيك حكم "حماس" وإقامة نظام بديل لها قابل للاستمرار، ولو أدّى ذلك لفوضى داخلية في القطاع.

والظاهر مما تنشره الصحافة الإسرائيلية أن مهمّة هذه المليشيات لا تقتصر على التعاون مع إسرائيل في ما يخص توزيع المساعدات والتمهيد للعب دور البديل عن حركة حماس في إدارة القطاع فحسب، بل تمتد إلى القيام بمهام قتالية ضد خلايا المقاومة، وجمع المعلومات عنها، وتفكيك العبوات التي جهّزتها الفصائل في غزّة لاستخدامها ضد الجنود الإسرائيليين؛ وهو ما نقل عن عسكريين إسرائيليين قاتلوا في غزّة، حسب موقع القناة السابعة الإسرائيلية.

ثمّة نظرة مهمة أخرى عبّر عنها بن مناحيم في مقال آخر؛ إذ اعتبر ظهور هذه المليشيا التي تتعاون مع جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) أحد أعراض ضعف المقاومة في غزّة، والذي نتج عنه كسر حاجز الخوف في القطاع، مع إمكانية أن يتطوّر ذلك إلى التوسّع في تجنيد مزيد من الشباب الراغبين في التعاون مع الاحتلال الإسرائيلي... ومن المهم هنا تأكيد ما ذكرته مصادر إسرائيلية من وقوف ثلاثة مسؤولين إسرائيليين كبار خلف مشروع أبو شباب في غزّة؛ وهم رئيس الحكومة نتنياهو، ورئيس الشاباك المعزول، رونين بار، ورئيس الأركان السابق، هرتسي هاليفي، المستقيل في يناير/ كانون الثاني الماضي، ما يعني أن مشروع تأسيس مليشيا فلسطينية موالية لإسرائيل وتنفذ مخطّطاتها داخل القطاع كان معداً منذ شهور طويلة، وأن نتنياهو ظل يحتفظ بذلك سرّاً كلما سئل عن ترتيبات اليوم التالي للحرب.

وهكذا تتكشّف بعض جوانب الرؤية الإسرائيلية لليوم التالي للحرب، والتي أريد لها أن تظلّ سرّية أطول فترة ممكنة، غير أن ما كشفه ليبرمان أخيراً عن وقوف إسرائيل خلف تسليح هذه المليشيا ودعمها دفع نتنياهو إلى الاعتراف بحقيقة الدعم الإسرائيلي، مؤكّداً أن ما تقوم به إسرائيل "لا عيب فيه، وأنه جيد، لأنه ينقذ أرواح الجنود الإسرائيليين... واعتبار ما قام به ليبرمان من تسريب لمعلومات أمنية حساسة ناقشتها لجنة الخارجية والأمن بالكنيست خطيرٌ للغاية وأفاد حركة حماس كثيرا". أثار ما سرّبه ليبرمان حفيظة عسكريين إسرائيليين، على اعتبار أن المعلومات المسرّبة أسرار دولة، وتعرض حياة عملاء إسرائيل في القطاع للخطر، حتى أن المقدّم احتياط ورئيس جمعية مصابي الحرب، مائير إيندور، طالب بمحاكمة ليبرمان بسبب تصريحاته غير المسؤولة. فيما رأى محرّر موقع أبو علي إكسبريس، وهو أحد المواقع الإسرائيلية الشهيرة المهتمة بمتابعة الشأن العربي في مواقع التواصل الاجتماعي، أن تصريحات ليبرمان حوّلت ما كان ينظر إليه مجرّد شائعات عن مليشيا عميلة لإسرائيل في القطاع إلى أمر واقع، بحكم المواقع الرسمية التي شغلها ليبرمان سابقاً ويشغلها حالياً؛ حيث عمل وزيراً للخارجية، ثم وزيراً للحرب، وشغل منصب نائب رئيس الحكومة، فضلاً عن عضويته الحالية في الكنيست، وهذا كله دعم موقف "حماس" في مواجهة هذه المليشيا، لأنها أصبحت تعتمد على مصادر رسمية إسرائيلية تؤكد وقوف أجهزة الأمن الإسرائيلية المختلفة خلف هذا النشاط.

ورغم خطورة هذه المليشيات على المقاومة ومستقبلها في القطاع، وقيامها بدور يتشابه كثيرا مع دوري سعد حداد وأنطوان لحد اللذين قادا جيش لبنان الجنوبي أكثر من عقدين (من نهاية سبعينيات القرن الماضي حتى عام 2000)؛ فإن هناك تساؤلين مهمين قد يجيبان عن احتمال نجاح هذا المشروع الصهيوني؛ يرتبط أولهما بالتعداد المحدود لهذه العصابات (مائة إلى ثلاثمائة عضو)، ومدى قدرتها على لعب دور البديل عن "حماس"، وهو ما طرحه المراسل الصحافي لصحيفة معاريف، آفي أشكنازي، الذي أفاد بأن الهدف الذي أراده جهاز الشاباك دراسة إمكانية إنشاء مجموعات محلية في مناطق جغرافية محدّدة في البداية، ومتابعة إمكانية التوسّع في بناء مجموعات مماثلة. في هذا السياق، يمكن القول إن خطّة نتنياهو التي بدأت تتكشف أخيراً تعتمد، في جانب منها، على دعم هذه المليشيات لتكون حائط صدّ متقدّماً في مواجهة هجمات المقاومة، ولتصبح بديلاً عن "حماس"، وإطالة أمد الحرب من أجل تمكين هذه العصابات من زيادة أعضائها، والنمو داخل القطاع، ومحاولة اكتساب أرضية بين السكّان، ويدعم ذلك ما نقلته الصحافية الإسرائيلية، عناب حلبي، عن مصادر إسرائيلية وفلسطينية، أن "أبو شباب" تعمل تحت إشراف شخصي من رجل المخابرات في السلطة الفلسطينية، بهاء بعلوشة، وأن هذه المليشيا لن تكون الوحيدة في القطاع؛ ومن المنتظر تأسيس مجموعات أخرى مماثلة في شمال غزّة (في بيت لاهيا)، وفي وسطها.

أما السؤال الآخر فيتعلق، كما كتب أشكنازي، بمدى إمكانية نجاح مجموعة من المرتزقة معروفة بارتكاب الجرائم وتهريب المخدّرات في أن تكون بديلاً لحركة حماس. ويتحدّث أشكنازي عن أن غرابة الفكرة دفعت عسكريين في الجيش الصهيوني للتحفظ على أن تكون حلاً طويل الأمد، أو خطوة استراتيجية، وأن الأفضل وضع تصوّر مع دول المنطقة لإنشاء هيكل حاكم بديل لحركة حماس. وهنا تحديداً، وفي ظل ما نشر من مقاطع فيديو لهذه المجموعات، يمكن القول إن الإدارة الإسرائيلية، وفي سبيل سعيها إلى منع مزيد من الخسائر في أرواح الجنود الإسرائيليين، لم تعد تستطيع تحمّلها، وفي إطار التخطيط لليوم التالي للحرب، ربما وصلت إلى هذا التصور بالترتيب مع دول عربية بعينها، عرفت بدعم المليشيات وحركات التمرّد في العالم العربي لإنجاح مخطّطها في إيجاد بديل لحركة المقاومة. وبهذا لا تكون الحكومة الإسرائيلية قد ابتعدت عن مقترح هذا الفريق من العسكريين. غير أن نجاح هذا المخطّط يرتبط باستمرار الحرب وعدم توقفها، وعدم الدخول في أي اتفاق يفرض هدنة طويلة، وهو ما يحرص عليه نتنياهو رغم الضغوط السياسية والإعلامية، ورغم حديثٍ متزايدٍ عن دخول الحرب مرحلة عبثية، حسب وصف الصحافي في معاريف، بن كسبيت، وسقوط قتلى للجيش الإسرائيلي بشكل مستمر أمام ضربات المقاومة، ونصر مطلق تبتعد إسرائيل عنه كلما امتدت الحرب، ونقص هائل في القوى البشرية، وانهيار قوات الاحتياط، وازدياد العزلة الدولية على إسرائيل، علاوة على التداعيات الاقتصادية.