العدد 1350 / 20-2-2019

عشية اكتمال السنة الأولى لمسيرات العودة التي انطلقت من قطاع غزة في 30 آذار الماضي، تبدو هذه الظاهرة الكفاحية الملهمة أشد ما تكون احتياجاً لإعادة التقييم والمراجعة بلا مزايدات، بنفسٍ نضاليٍّ وروحٍ وثّابة، وذلك بعد أن تشوّشت الصورة، وخفت البريق، وتضاءل الزخم، وباتت المسيرات ذاتها مهدّدة بالاضمحلال التدريجي، ومن ثمّة التحول إلى عبء، بعد أن كانت رافعة وطنية هائلة.

وأحسب أن الدعوات المبكرة نسبياً، وخافتة الصوت في البداية، للقيام بمثل هذه المراجعة، قد أخذت تكتسب في الآونة الأخيرة، كثيراً من الوجاهة والمقبولية، إثر تعاظم الخسائر البشرية، خصوصاً من الأطفال، فضلاً عن انسداد الآفاق، وفشل الرهانات، وانصراف الاهتمام والمتابعة لها خارج قطاع غزة المحاصر، إذ لم تعد المسيرات تحظى بالتغطية الإعلامية المناسبة، حتى في وسائل الإعلام الفلسطينية.

ومع أن هناك من روّعه قتل الأطفال بسادية، وصدمته أعداد المعاقين المتزايدة، فراح يدعو إلى وقف المسيرات، وإنهاء هذا الموت المجاني أمام الكاميرات، وأن هناك أيضاً من طالب برد فعل عسكري على مسلسلات القتل، أياً كانت النتيجة، إلا أن المهمومين بتطورات المشهد الغزي لم يطالبوا بوقف هذه المسيرات يوماً، أو بالتنازل عنها هكذا بلا ثمن، وتقديم ذلك هدية مجانية لصالح احتلالٍ بغيض، ظل يناور لاستهلاك هذه الظاهرة نفسها بنفسها.

وعليه، فإن الدعوة إلى إجراء المراجعة المطلوبة من دون تأخير لا تشي بهزيمة ذاتية، ولا تُعدّ تراجعاً عن المبدأ، أو غير ذلك مما لا يرد في أذهان المدافعين عن صحة الظاهرة، المنتقدين، في الوقت ذاته، سوء إدارتها، جرّاء سوء التوظيف، والتباس الخطاب، وتبدل الأهداف، بل هي دعوةٌ محقةٌ لتصويب المسار، وتجنّب الأخطاء، وتجويد الأداء، على طريق استعادة الوهج السابق، واسترداد ذلك المشهد الكفاحي الباذخ، الذي بدأت عليه هذه المسيرات.

فقد بدأت هذه المسيرات، في حينه، حراكاً جماهيرياً سلميّاً متناسباً مع الظروف الذاتية العصيبة، أعاد إلى الأذهان بعضاً من صورة انتفاضة الحجارة المجيدة، وأيقظ في البال مظاهر المقاومة الشعبية المشروعة، خصوصاً بعد أن رفرفت في سمائها راية فلسطين وحدها، وغابت سائر الأعلام الفصائلية، وتصدّرت المشهد هيئةٌ وطنيةٌ عليا مدنية، فكان ذلك كله بمثابة بشائر سارّة، أثارت الخيال العام، وحفّزته على التماثل مع هذه الظاهرة الفريدة.

غير أن رياح هذه المسيرات لم تمضِ بما تشتهي أشرعة السفينة الفلسطينية، ولم تبق كما بدأت ذات أجندة وطنية شاملة، إذ سرعان ما دخلت عليها الحسابات الخاصة، وأخذت تفقد دوافعها الوطنية الجامعة، ثم استدرجها الاحتلال إلى فخ المواجهات الدامية، فخسرت بذلك طابعها الأوليّ حراكاً سلمياً مبدعاً، وانزلقت إلى ما يشبه الاشتباك الميداني باهظ الكلفة، وغير المنتج وفق كل التجارب السابقة، وهو ما حرمها من التضامن العربي والدولي.

لم يتوقف تشوّش رسالة مسيرات العودة عند هذا الحد، بل تعدّاه إلى تغييرٍ في الهدف الكلي لهذه الظاهرة، عندما تم دمج هدف كسر الحصار، وهو هدفٌ مشروعٌ على أي حال، في هدف حق العودة، عبر نضال جماهيري تراكمي طويل الأجل.

كما جرى، في وقتٍ لاحق، إخضاع المسيرات لغاياتٍ تكتيكيةٍ موظفةٍ في خدمة الانقسام، حيث خطفتها الفصائل، وتعالت في فضائها المناكفاتُ السياسية، وفوق ذلك تم ضبط وتيرتها بمسألةٍ جزئية، وهي إدخال الوقود واستلام الرواتب، أي الهبوط بها من سقف الأهداف الوطنية الكبرى إلى معادلة الأموال مقابل التهدئة.

إزاء ذلك كله، نجدّد الدعوة، للمرة الثالثة على الأقل، إلى القيام بمراجعةٍ شجاعةٍ لمجرى هذه المسيرات التي لم تعد تشكّل أداة ضغطٍ يعتدُّ بها ضد الاحتلال، بل أدّت إلى إشاعة التذمر الشعبي في القطاع المحاصر تحديداً، متشجّعين في ذلك بما ظهر من نقاش داخلي، وصل حتى إلى الهيئة العليا لمسيرات العودة نفسها، وما نُشر من انتقاداتٍ رصينةٍ أخذت تظهر من على منابر غزية مختلفة، فضلاً عما بدت عليه مسيرة يوم الجمعة الفائتة من انكفاءٍ في الفاعلية والحشد، واقتصار المتحدّثين باسم اللجنة العليا على قادةٍ من الفصائل فقط.

عيسى الشعيبي