العدد 1416 / 10-6-2020

بقلم : حسام شاكر

أظهرت قيادة الاحتلال الإسرائيلي خلال العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، ممثلة بحكومات متعاقبة قادها بنيامين نتنياهو، قلقها الواضح من حملات المقاطعة، فأعلنت عن توجّهات مضادّة وصاغت استراتيجيات وخططاً وحملات وتحرّكات واتصالات بهدف محاصرتها حول العالم، وهو ما سيستمرّ بلا هوادة في العشرية الثالثة على الأرجح.

إنّ خشية قيادة الاحتلال من حملات المقاطعة التي تستهدفه تعود إلى المخزونات المحتملة من فرص النجاح التي تنطوي عليها، وإلى فعالية هذه الأساليب في الضغط والتأثير وحشد التضامن العالمي؛ من واقع خبرات تاريخية سابقة، خاصة مع استحضار نموذج جنوب أفريقيا ونظامها العنصري البائد الذي جوبِه بمقاطعة عالمية بدافع أخلاقي.

إنّ المقاطعة، مؤهّلة بخطابها وأساليبها وتأثيراتها، لأن تتخلّل أوساطاً عدّة في بيئات شتى حول العالم، وقد تصير ثقافة عامّة فتتدحرج على هذا النحو لتفرض واقعا ضاغطاً على الاحتلال، ولو جاء ذلك في المستوى المعنوي وحده.

من الواضح أنّ المقاطعة، بموجب هذه الملابسات وسواها، استثارت قلقاً وجودياً مستقبلياً لدى الاحتلال، وقد جاء ذلك بمنظور المآلات لا من الواقع الراهن وحسب.

تأثيرات المقاطعة في الواقع؟

ثمة أخطاء منهجية تعتري محاولة قياس تأثير جهود المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات التي تستهدف الاحتلال الإسرائيلي، مثل النظر إلى الأثر في النطاق الموضعي المباشر، أي في مجال الاستجابة العملية لنداءات المقاطعة مثلاً، دون ملاحظة أنّ هذه النداءات هي في الوقت عيْنه مدخل لإبراز قضية فلسطين عموماً وبعض ملفّاتها تفصيلاً، بما من شأنه أن يرفع من منسوب التفاعل معها.

كما أنّ محاولة قياس أثر حملات المقاطعة من خلال حصيلة الإنجازات العملية المتحققة في التجاوب مع دعواتها؛ من شأنه أن يكتفي بهذا المجال دون ملاحظة تأثيرات أخرى لهذه الدعوات قد لا تتجلّى بوضوح أو لا تتمظهر بصفة مباشرة، فثمة تأثيرات متعددة المستويات لخطاب المقاطعة لا تتوقف عند حدود التجاوب العملي المباشر مع نداءاته.

أمّا السؤال النمطي عمّا إذا كان أسلوب المقاطعة ذاته مُجدياً حقاً أم لا؛ فيبقى سؤالاً إشكالياً، من وجوه عدّة. فالاختيارات التضامنية والنضالية هي بحدّ ذاتها مواقف مبدئية أساساً، ومسألة الجدوى تركِّز بطبيعتها على البُعد الوظيفي والمردود التفاعلي لهذه الاختيارات، وقد تذهب إلى قياس الأثر بمنطق الأسلوب المتفرِّد أو الأداة الواحدة، وهو منحى كفيل بأن يهوِّن من اختيارات متعدِّدة لأنها قد تعجز منفردة عن إحداث فارق حاسم أو نوعي. أي أنّ أداة المقاطعة لا تعمل وحدها أساساً في الصراع مع كيان احتلال وعدوان واضطهاد وتمييز عنصري، وتأثيراتها تتجاوز التجاوب المباشر مع النداءات والدعوات التي تطلقها؛ فهي تساعد على وضع قضية فلسطين ضمن الاهتمامات العامّة وتضغط على مؤيِّدي الاحتلال وتحرِّض على المراجعة النقدية لانتهاكاته.

ما ينبغي تأكيده أنّ مقاطعة الاحتلال تعبِّر عن موقف مبدئي وأخلاقي بصفة مستقلّة عن محاولة تسويغه بمردودات عملية؛ فحتى وإن لم تَبْدُ هذه المقاطعة مُجدِية كما قد يُحسَب؛ فإنها تبقى تعبيراً لا غنى عنه عن التزام مبدئي وقيمي.

لا تقتصر حملات المقاطعة على استجابات عملية معها تقوم على الكفّ عن سلوك وحسب؛ فمن مردوداتها إبطاء التفاعُل "الإيجابي" مع الاحتلال أيضاً. وتعزِّز خطابات المقاطعة وجهودها مواقف رافضي الاحتلال والمتضامنين مع الشعب الفلسطيني، ولها مفعول داعم لاختياراتهم. كما تُخفِّض مساعي المقاطعة منسوب الأمان المستقبلي للاستثمارات ووجوه التعاون القائمة مع الاحتلال، بما يضغط عليها باتجاهات تثبيطية.

أمّا في المستوى المعنوي، فإنّ خطابات المقاطعة وجهودها تضغط على الضالعين في التعاون مع الاحتلال وتفرض عليهم مساءلة أخلاقية قد تقضم من رصيدهم المعنوي أيضاً، كما تضغط على جماهير الاحتلال باتجاه الإحساس بنموّ النبذ العالمي المترتِّب على ما يرتكب باسمهما وبمعيّتها، علاوة على تأثير المقاطعة في الدعم المعنوي للشعب الفلسطيني والجهود المتضامنة معه.

وفي مستوى الثقافة المجتمعية والعالمية تتأهّل خطابات المقاطعة وجهودها لأن تترك تأثيرات متجدِّدة باتجاه تطوير ثقافة نبذ الاحتلال في أوساط جمهورها وفي المجتمع المدني في بيئات تحرّكها، بما في ذلك ما يوصَف بالمجتمع المدني العالمي.

لا ينبغي أن تُقرَأ خطابات المقاطعة وجهودها موضعياً في نطاق اختصاصها المباشر؛ فهي بمثابة مدخل للتعرّف على قضية فلسطين وإظهار التضامن معها واقتراح وجوه من التصرُّف العملي بموجب ذلك أيضاً. إنّ لهذه الخطابات والجهود تأثيراتها المؤكدة في تنمية الوعي بالقضية لدى أوساط وفئات حول العالم، وتنمية روح الالتزام المبدئي والقيمي والأخلاقي المشفوعة بروح تصرّف ومبادرة (...) .