العدد 1333 / 17-10-2018

بقلم : سوسن جميل حسن

قبل إعلان "الثورة المجيدة"، كما تُسمّى في إنكلترا التي قام بها البرلمانيون الإنكليز في العام 1688، بالتحالف مع ويليام الثالث، الحاكم الأعلى لجمهورية هولندا، كانت القوانين قد وضعت حدّا للرقابة على الصحافة، بعدما كانت حرية التعبير مقموعةً، والأفكار محاصرةً، حتى لا تتسّرب إلى المجتمع، وحصرت القيود بما يخص "الخيانة والتحريض على الفتنة والإبلاغ عن الإجراءات البرلمانية". وكانت هذه المهنة (الصحافة) محفوفة بالمخاطر، ومن ضحاياها، في ذلك الوقت، الناشر بنيامين هاريس الذي دين بتهمة التشهير بـ"سلطة الملك"، وأودع السجن، لأنه لم يستطع دفع الغرامة المالية التي أقرّها الحكم بحقه. ارتبط الإعلان عن حرية الصحافة مع "إعلان الحقوق" الذي أصدره البرلمان الإنكليزي في العام 1689، مشترطًا على الملك الجديد عدم القيام بأي عملٍ يؤدي إلى الانتقاص من حقوق الشعب، ومن أهم البنود التي تضمنها الإعلان: حقِّ الملك في التاج مستمدٌّ من الشعب الممثل في البرلمان، وليس من الله. ليس للملك إلغاء القوانين، أو وقف تنفيذها، أو إصدار قوانين جديدة، إلا بموافقة البرلمان، بالإضافة إلى أن حرية الرأي والتعبير مكفولةٌ ومُصانةٌ في البرلمان. الإنجاز العظيم الذي حققه البرلمانيون، في ذلك الوقت، عن طريق هذا الإعلان هو تكريس مبدأ سيادة الشعب، أو إرادة الشعب على التاج، أو سيادة سلطة الشعب التي كانت منارة لشعوب أوروبا، من أجل السعي إلى تحقيق نظام الحكم البرلماني.

وبسبب أهمية الدور الذي تلعبه في الحراك السياسي وصناعة الرأي العام، بقيت الصحافة والصحف في لعب مع القوانين مثل القط والفأر، فعلى الرغم من قانون المطبوعات الذي وضع في فترة سابقة، واستمر الشغل عليه وتعديله، والذي من ضمن بنوده فرض رسوم على الصحف، كانت الصحف آخذة في الازدياد، وكان الإقبال الشعبي عليها يزداد أيضًا، حتى وصلت الصحافة إلى عصرها الذهبي في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، في ظل التقدّم التقني في الطباعة والاتصالات، أحد النواظم الخاصة بعملها. كذلك في باقي أنحاء أوروبا، كانت الصحافة الوليدة، بشكلها الأولي الذي نمت وتطورت بعده، قد واكبت ولادتها وتطورها في إنكلترا، وتتالت بعدها الأمم والشعوب التي نظمت صحافتها وقوننتها.

لم تعد الصحافة في عصرنا الحالي مقتصرةً على الصحف في شكلها التقليدي، بل أصبح العالم وأصبحنا، في عصر الثورة الرقمية، نرزح تحت سطوة سلطة فاعلة مؤثرة صانعة للأحداث، مثلما هي مواكبة لها. دعيت السلطة الرابعة، وتعدّدت منابرها ووسائطها، وصارت أحد الأعصاب الأساسية لحياة البشرية. ومع تطور الصحافة، نشأ ميدان ثقافي خاص بها يسمّى "ثقافة الصحافة" الذي يُعني بتعريف موجز الإيديولوجيا المهنية المشتركة الخاصة بهذا القطاع، والعاملين فيه، أو بلورة فهم مشترك للهوية الثقافية للصحافة، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالدور والمكانة الخاصين بهذا النشاط البشري المهم، وترتبط أيضًا، من حيث فهمها ذاتها، بالنظم السياسية والمجتمعات التي تعود إليها.

ولكن بالنسبة إلى البلدان التي تحكمها أنظمة شمولية استبدادية، فإن الصحافة محاصرة بالنظام السياسي، وهي مرهونةٌ لأجندات القوى الحاكمة، وإن مثلت بعض الأحزاب، وما أكثرها في تلك البلدان كما بلداننا، لكنها جميعها ترزح تحت مظلة النظام الحاكم. ليس في هذه البلدان صحافة مستقلة، أو صحافة تتمتع بالحرية المطلوبة، فحريتها منقوصة، أو محاصرة، كما باقي الحريات في ظل القمع والتجاوزات والتعدّي على الحقوق كلها.

لن يكون رائف بدوي أو جمال خاشقجي الأخيرين، فالمسلسل لن ينتهي إلا بنهاية حكم الاستبداد بكل أشكاله في منطقتنا العربية تدرك الأنظمة التي تحكم بهذه الطريقة وتعي تمامًا أنها غير شرعية، وأن بقاءها واستمرارها في الحكم يقومان، في الأساس، على القوة والترهيب وزرع الخوف في النفوس، وعلى القبضة الأمنية، وأشد ما يرعبها وجود رأي آخر معارض لرأيها أو ناقد لأدائها، فتلجأ إلى مصادرة الآراء، وملاحقة الكتاب والصحافيين والعاملين في الشأن الثقافي، فهي لا تسمح لإعلامٍ معارضٍ، أو صحافةٍ معارضة، أن يكون لهما صوت، مثلما لا تسمح بوجود معارضة سياسية.

لا يمكن لهذه المنطقة أن تنهض بوجود أنظمةٍ تحكم بهذه الطريقة، أنظمة أكبر عدو لها هو الكلمة التي يدفع صاحبها حياته لقاء التفوّه بها، أنظمة لا تعترف بالقوانين، لا يمكن لهذه الشعوب أن تحلم بمستقبل أرحم وأفضل، إذا لم تؤسّس لثقافةٍ تعزّز قيم العدالة والديموقراطية والمواطنة الحقة، وأن تسعى إلى بلورة مفاهيم الإدارة المدنية والقوانين المدنية. لن يكون رائف بدوي أو جمال خاشقجي الأخيرين، فالمسلسل لن ينتهي إلا بنهاية حكم الاستبداد بكل أشكاله في منطقتنا العربية.