أسامة أبو ارشيد

التغيير القيادي الذي شهدته حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، سواء على مستوى رئاسة المكتب السياسي، أو الانتخابات الداخلية في قطاع غزة، أحدث خللاً في التوازنات القيادية داخل الحركة لمصلحة قطاع غزة. ولأن القطاع يعيش حصاراً خانقاً منذ أكثر من عقد، فإن ثمة قلقاً حقيقياً من أن قيادتها الحالية ستختزل تعقيدات القضية الفلسطينية، وما يفترض أن يكون مشروعاً وطنياً جامعاً في قطاع غزة، وذلك كما اختزلت حركة فتح، من قبل، تعقيدات القضية الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني في الضفة الغربية. وقد لخصت الأمر بأن من حق «أهل قطاع غزة ألا يروا الدنيا إلا من خلال ثقب إبرتهم، ولكن ليس من حق قيادة حركة فلسطينية كبيرة وأساسية مثل «حماس»، أن لا ترى الدنيا إلا من خلال ثقب إبرة غزة. فلسطين أكبر من قطاع غزة، ونكبتنا في قطاع غزة جزء من نكبتنا في فلسطين كلها».
كثيرون اعتبروا أن الحركة واعية لمخططات حصر مقاربتها لفلسطين في القطاع، وأن ذلك أحد أهم أسباب توجهها إلى «المصالحة»، حيث إنها تريد التخفف من عبء إدارة القطاع، لتركز على المقاربة الجَمَعِيَّةِ لفلسطين. لا أشك في نيات «حماس» هنا، ولا أناقش أبداً حق أهالي قطاع غزة أن يعيشوا متحرّرين من الحصار بأي طريقة ممكنة. ولكن من الضرورة بمكان أيضاً، أن يكون وَعْيٌ أن الأمر ليس بهذه السهولة، فالمعادلات والسياقات التي تفرض على «حماس» الآن تحصرها في زوايا ضيقة، وتجعل الطرق المتاحة لها والمفتوحة أمامها محدودة جداً. ضمن الإطار السابق، يمكن إدراج مؤشراتٍ عديدة تؤكد أن المطلوب فلسطينياً ليس رفع الحصار عن القطاع المنكوب مباشرة، بقدر ما أن المطلوب هو إعادة تأهيل «حماس»، أو حتى تدجينها إن أمكن، ترغيباً وترهيباً. من ذلك، مثلاً، أن السلطة الفلسطينية، على الرغم من مضي أكثر من أسبوع على توقيع اتفاق «المصالحة» في القاهرة، وعلى الرغم من تمكين «حكومة الوفاق الوطني» في القطاع، إلا أنها ما زالت ترفض رفع العقوبات القاسية التي فرضها رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، على أهالي القطاع، من أبناء شعبه، في نيسان الماضي. 
أكثر ما يشغل عباس الآن هو إعادة تشكيل أجهزة الأمن في قطاع غزة، حيث فتح باب التجنيد هناك، وطبعاً، فإن مفهوم عباس وسلطته لدور أجهزة الأمن هو ما نراه في الضفة الغربية، ضمن عقيدة «الفلسطيني الجديد» التي أرساها الجنرال الأميركي كيث دايتون، الذي أوكلت إليه مهمة بناء قوات الأمن الفلسطينية بعد استشهاد الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات، أواخر عام 2005. «الفلسطيني الجديد» فَصَّلَ فيه دايتون في محاضرة له في أيار 2009، أمام معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، الذي يعدّ أهم أفرع اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. ولخص دايتون مهمة قوات الأمن الفلسطينية في عبارة قالها ضابط فلسطيني لخريجين جدد: أنتم «لم تأتوا إلى هنا لتتعلموا كيف تقاتلون إسرائيل، بل لكي تتعلموا كيف تحفظون النظام، وتحترمون حقوق جميع المواطنين، وتطبقون حكم القانون، من أجل أن نتمكن من العيش بأمن وسلام مع إسرائيل». سيرد بعضهم بأن هذا ما يريده عباس وسلطته، لكن قوة حركة حماس في القطاع، وجناحها العسكري، لن يسمحا بذلك. وبالتالي، فليقل عباس ما شاء عن «سلاح شرعية» واحد، ورفضه استنساخ تجربة حزب الله اللبناني في القطاع. ولكن ما لا ينتبه له أصحاب هذا الرأي أن المعادلة الجديدة التي يتم صياغتها لا تتكئ على عباس وسلطته فحسب، بل إنها أكبر من ذلك بكثير.
خلص محور السلطة الفلسطينية: مصر- إسرائيل، مدعوماً بالولايات المتحدة والسعودية والإمارات، إلى أن العصا وحدها لم تحقق لهم ما يريدون من «حماس»، فكان أن قدّموا الجزرة مع بقاء العصا، فضلاً عن اتباع سياسة التأني مع الحركة بدل العجلة، وذلك كما فعلت القاهرة برفض مطالب عباس نزع سلاح «حماس» فوراً. هم يدركون ورطة «حماس» في القطاع، وهم يأخذون غزة وأهلها رهائن. لاحظ هنا أنهم يرفعون آمال أهل القطاع بقرب رفع الحصار، ثم يهوون بها مباشرة. هذا مقصود، وهي ورقة ضغط لئيمة، توظف حاجات الناس ضد مشروعهم الوطني. ومع نقل قيادتها المركزية إلى القطاع، تكون «حماس» قد قدمت لهذا المحور أكبر هدية مجانية. ولمن لا يعلم، منعت مصر رئيس المكتب السياسي الجديد للحركة، إسماعيل هنية، غير مرة، من الخروج في جولة خارجية، حتى تضمن أنه لن يغادر قطاع غزة دون عودة، وبالتالي التحرّر من قبضة ابتزاز القاهرة ومحورها لحركة حماس وقيادتها، التي يُخْشى أن ترتهن كلياً إلى حاجات القطاع وسكانه المشروعة. 
في هذا الخضم كله، خرج علينا، قبل أيام، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، والمبعوث السابق للرباعية الدولية للسلام في الشرق الأوسط، توني بلير، بتصريحات مفاجئة لصحيفة الأوبزرفر البريطانية، «اعترف» فيها، بأنه وزعماء دوليين آخرين، ارتكبوا خطأ بمقاطعة «حماس» بعد  نجاحها في الانتخابات التشريعية عام 2006. حينها كان بلير رئيساً للوزراء، وارتكب مع الرئيس الأميركي، جورج بوش، أكبر الفظائع الغربية بحق المنطقة العربية والإسلامية، كما في أفغانستان والعراق وفلسطين. ولكن تصريحات بلير لم تشكل «صحوة ضمير» مفاجئة، فهو أملس كالأفعى، سامّ مثلها، وهو هنا يبرّر ما يعتبره خطأ، بأنه كان من الأجدى جَرُّ حركة حماس إلى الحوار بدل مقاطعتها. ولا شك أن بلير هنا يقوم بقراءة بأثر رجعي، ذلك أن حصاراً وحشياً لأكثر من عشر سنوات، وثلاث حروب صهيونية مدمرة، لم تدفع «حماس» إلى التنازل عن ثوابتها، ومن ثمَّ فإنه يطرح الجزرة مع بقاء العصا، وذلك كما فعل في لقاءاته مع قادة «حماس» في الدوحة عام 2015، في محاولةٍ لترتيب هدنة طويلة الأجل مع إسرائيل، وذلك عندما كان مبعوثاً للرباعية الدولية. 
باختصار، صحيح أننا لن نختلف كثيراً في توصيف الضرورات والمحفزات في موضوع «المصالحة» بين حركتي فتح وحماس، لكن هذا لا يعني أن طرف السلطة الفلسطينية، مسنوداً بمحور مصر- إسرائيل- أميركا، ومعهم السعودية والإمارات، ينطلقون من الضرورات والمحفزات نفسها. لقطاع غزة ضروراته واحتياجاته وحساباته، لكن هذا لن يعني بحال أن الأفعى ستنظر بعين العطف لما تظنه فريسة سهلة الآن. وبناء على ذلك، فإننا نتفهم أن يبقى القطاع مصراً على المصالحة مخلصاً فيها، بل هذا المطلوب، ولكن الركون إلى نيات الأطراف الأخرى كارثة، فما يحركهم المكر ومخطط محلي- إقليمي- دولي واسع لتصفية قضية فلسطين، وليس كارثة غزة الإنسانية. إفشال هذه المؤامرة الكبيرة على المشروع الوطني الفلسطيني مسؤوليتنا جميعاً، لا مسؤولية غزة الجريحة وحدها. تكفي غزة نكبتها، ولكن الركون إلى «حسن النيات» أمر خطير، وكارثته محققة.}