د. علي العتوم

مَنْ ذا الذي لا يُحِبُّ المصالحة، وخاصّةً بين الإخوة وأبناء العمومة ؟! وهو ما جرت أعماله بالأمس بين منظّمتي فتح وحماس على أرض الإسراء والمعراج، فلسطين العزيزة . فكلُّنا يُحِبُّها ويؤيِّدُها ويسعى إليها . ومَنْ لا يُحبّها فمأفون ومشبوهٌ، ولاسيّما إذا قامت على أسس سليمة لا تَمَسُّ الكرامة، أو تكون على حساب الوطن والدين.
لقد قامتِ القطيعة بين الفصيلين قبل سنوات كما هو معروف، لمَكْرِ فتح بحماس والعمل على الاضرار بها والاستئثار دونها بكل مفاصل الحكم في الضفة والقطاع. هذا إلى تساوق سلطتها مع الكيان الغاصب: اعترافاً وتعاوُناً أمنيّاً ومحاربةً للمقاومة التي تتبنّاها حماس بوصفها فصيلاً إسلاميّاً يعدُّ المقاومة جهاداً في سبيل الله.
ومعلومٌ أنّ اليهود يكرهون هذه المصالحة ابتداءً، لأنّ وجودهم أصلاً كما هو شأنهم في القديم والحديث يقوم على الإفساد بين الناس والجماعات. ولا ريبَ أنّه كان لهم دورٌ كبير في هذا الخلاف بين الفصيلين المذكورين، وهم يغذُّونه باستمرار، ومن هنا يأتي الخوف من سعي هؤلاء الأخابث عن طريق عملائهم لإفشال هذه المصالحة.
ولأنّ منظّمة حماس تُعَدُّ – ولا شك – أُمَّ الوَلَدَ الحقيقية في القضية الفلسطينية، فهِيَ تتدرَّعُ بالصبرِ وتَعُضُّ على الجراح وتتنازل عن كثير من المكتسبات وتعفو عن عديد من التجاوزات في سبيل تحقيق هذه الغاية النبيلة. فقد سارعت للجلوس مع فتح برعاية مصر وعلى أرضها رغمَ كل المظالم التي نالتْها من هذين الطرفين على مدى كُلِّ هذه السنوات الماضية، من إسهامٍ بحصار شديد لها خاصة وللقطاع عامة مع العدو اليهودي والوقوف متفرِّجَيْنِ: (مصر والسلطة) أثناء الاعتداءات المتكررة على غزة، بل اتّهام حماس بأنها منظّمة إرهابية كما هو موقف اليهود والأمريكان!!
ومن هنا تنازلت حماس لفتح عن الرئاسة في غزّة وحلَّت لجنتها الإدارية فيها، ودعت حكومةَ الوفاق الوطني برئاسة الحمدالله لتُسلِّمَ لها السلطة التنفيذية فيها كاملة، وأثْنَتْ على جهود مصر في هذه العملية لتُذَكِّرها بدورها التاريخي الذي تناسَتْهُ. ولا ريب أنّ حماس فعلت كل ذلك إنجاحاً لجهود المصالحة ولرفع الحصار الجائر عن القطاع في شؤون: الماء والكهرباء والغذاء والدواء، وأخيراً في تخفيض عبّاس لرواتب الموظّفين وفرض الضرائب الجديدة. 
وما من مِرَاء أنَّ حماس بهذا تُقدِّم لأهلها في فلسطين وللعرب والعالم كله سلامة نيَّتها وصِدْقَ وطنيَّتها في هذا الشأن. ونحنُ لا نتَّهم الآخرين، ولكننا نقول: إنّه لا يستوي مَنْ يُوادُّ اليهودَ ويتعاون معهم مع مَنْ يحاربهم ويأبى الاعتراف باغتصابهم، كما لا يستوي مَنْ يتنقَّصُ ماهِيّات شعبه ويُقتِّرُ عليه ويُضيِّق، مع مَنْ يسعى للتوسعة عليه بكل سبيل. ومن هنا جاء كلامُ الوسيط المصري على لسان مدير المخابرات لحماس: أنتم مَنْ سيكتب عنكم التاريخ أنَّكم الذينَ قضيتم على الانقسام الفلسطيني.
غيرَ أنّه لا بدَّ من القول: إنَّ الأجواء التي جرت فيها عملية المصالحة أجواءٌ محمومة، والطريق مشوَّكة بل مُلَغَّمَة والأطرافُ ليست على قلب رجل واحد ولا بنيَّةٍ واحدة أو توَجُّهٍ واحد. فبينما حماسُ تتّخذُ قرارها باستقلاليةٍ تامّةٍ، فإنَّ الأطراف الأخرى شُركاءَ ووسطاءَ ليسوا كذلك، إذ لهم مرجعيّاتٌ أخرى داخلية وخارجية. وهذه المرجعيات لا تكادُ تطيقُ رؤية حماس، بَلْهَ بقاءَها والتصالح معها، ومن هنا يجبُ أنْ يُسارَ على هذه الطريق بحذر شديد.
إنَّ النقطة المهمة أو الحسّاسة، وهي النقطة غير المطروحة على البساط ظاهراً أو بصراحة هي مسألةُ سلاح المقاومة، وإنْ كانت لا تغيبُ أبداً عَمَّن يرقُبُ المسار ويرصُدُه وأعني بهم اليهود خاصّة، ويأتي من بعدُ مَنْ يُؤيِّدُهم ويدعهم من أمريكان وسُلطة وعرب وسطاء وغير وسطاء. ومن هنا جاء قرار حماس لاستباق الأحداث أو بالأحرى قَطْعِ الطريق على المؤامرات وأصحاب الأجندات أنْ لا مُفاوَضَةَ على سلاح المقاومة، فهو خارج الحسبة تماماً، وهو سِلاحٌ مشروعٌ في كُلِّ القوانين السماوية والأرضية، إذ ما دامَ الاحتلالُ قائماً فلا بُدَّ أنْ يبقى النضال قائماً، حتَّى إنّ مدير المخابرات المصرية (ولو ظاهراً أو دعايةً)، قال لرئيس السلطة هذا الكلام.
إنّه لا مِرْيَةَ أنَّ حماس أبدَتِ الكثير من المرونة والتساهل لإنجاح المصالحة، وهي تنظرُ إلى واقعها المحلي وحالِ شعوبها العربية والوضع الدولي عامّة، وكُلُّها حَرْبٌ على المصالح العربية والفلسطينية، وتأييدٌ لليهود ودعمٌ. ومن هنا أصدرت قبل عِدَّة أشهر وثيقتها الجديدة بقبول دولة مستقلة على حدود ما قبل حرب حزيران عام 1967م، مع الاحتفاظ بثوابتها المعروفة. وها هي اليوم تتقدّم خطوات ملموسة لما فيه مصلحة الشعب الفلسطيني عامّة وأهل غزّة خاصّة.
وبالمقابل فإننا نتطلَّعُ أمام هذه الأريحية من حماس ألاّ تُقابلها فتْح بأقل منها، ونحن نتطلَّعُ إلى نجاح مساعي الإخوة الفلسطينيين من فتح وحماس وغيرهما من الفصائل الكريمة، تخفيفاً عن أهلنا هناكَ ما يعانون منه من آلام وأوجاع، وعودة إلى جمع الكلمة وتوجيه السِّهام نحوَ العدوِّ الحقيقي وهو الاحتلال البغيض.
ولْتعلمْ حماس خاصة أنّ خصماءها من أبناء الجلدة وغيرهم ما ساروا في هذا الموكب إلاّ وكُلٌّ يطلبُ صيداً أو ينويه على طريقته. اليهودُ بطَمَع في تأمين حدودهم مع حماس وإخراجُ أسراهم ولو بالتبادل، وعبّاس في توسعة سلطته، ومصر بحماية حدودها مع القطاع ودفْعاً عنها عُزْلَتها واتهامها بحرب غزّة وأهلها ومقاومتها. ومن هنا فإنني أخاطِبُ الجميع قائلاً: إنّها لفرصة سانحة فُلْتُهْتَبَلْ للفوز برضوان الله ومحبَّةِ الشعب وثناء التاريخ، وإلاّ فهي - لا قدَّرَ الله -  الخيبة والخُسران وتشفِّي اليهود وشماتة الأمريكان وسخرية الأعرابِ. فأخلِصوا النيَّةَ واصْدُقوا الحملة فإنَّ لليوم ما بعدَهُ.}