ياسر الزعاترة

ليس من العسير القول إن الصراع السوري بات من أكثر الصراعات تعقيداً في العالم خلال العقود الأخيرة، خاصة في أعوامه الثلاثة الأخيرة بعدما دخلت على خطه قوىً كثيرة، وإن بقي الخيط الإسرائيلي حاضراً في مجمل الحسابات الدولية المتعلقة بالصراع.
مساء الاثنين، فاجأ بوتين العالم بقرار سحب الجزء الرئيسي من قواته في سوريا، تاركاً العالم يتخبط في فهم القرار وأبعاده وأهدافه، حتى مضت ساعات طويلة على إعلان القرار، دون أن يصدر من إيران؛ الحليف الأهم لروسيا في سوريا وغيرها أي تعليق، باستثناء تعليق لجواد ظريف كان أشبه بتحليل اضطر إليه في مؤتمر صحفي، فيما يعلم الجميع أن الملف السوري ليس بيده أصلاً، ولا بيد روحاني.
في خلفيات القرار يمكن القول إن بوتين ومنذ اللحظة الأولى كان خائفاً من تورّط طويل في سوريا، وجاء بطء التقدم ليؤكد مخاوفه، لا سيما أنه يدرك تمام الإدراك حقيقة النوايا الأمريكية حياله، والغربية عموماً، التي ترى في تورطه في سوريا فرصة لاستنزافه ورد الإهانة التي وجهها لهم في أوكرانيا. وهنا يستحضر كثيرون قصة الطائرة السورية المقاتلة التي أسقطت بصاروخ حراري، وإمكانية أن يجري تسريب مضادات طيران للثوار تعيد تشكيل ميزان القوى، وتستعيد في ذاكرة الروس حكاية «ستينغر» في أفغانستان، والتي كانت مقدمة للهزيمة. لكن تدهور أسعار النفط كان عاملاً آخر شكل ضغطاً على أعصاب بوتين، وحيث لا يحتمل الاقتصاد الروسي تورطاً مكلفاً في سوريا.
في السياق السوري، يبدو من العبث تصديق قصة «تحقيق التدخل لأهدافه» التي وضعها بوتين في معرض تبرير القرار، اللهم إلا إذا أخذناه في سياق من تقديرات سابقة، تقول إن هدفه هو تأمين ممرات الدويلة العلوية، وهنا يمكن القول إن شيئاً من ذلك قد تحقق، وصار بوسع العلويين أن يحصلوا على دويلة، أو كانتون ضمن خيار فيدرالي لم يعد يخفى على أحد أنه بات مطروحاً في الأروقة الدولية، ولا يمانع فيه؛ لا الأمريكان ولا الروس أنفسهم (يؤمّن نفوذهم وقاعدتيهم العسكريتيين)، وإن اعتبره الإيرانيون والأتراك خطراً كبيراً لجهة تهديد الأكراد في كليهما بالانفصال. أما التفكير في حسم عسكري شامل، كما يحلم بشار، وربما سليماني أيضاً، فثمنه كبير جداً لا يمكن احتماله.
أن يأتي القرار الروسي عشية بدء مفاوضات جنيف، فلذلك دلالته دون شك، وبالطبع في ظل غطرسة الخطاب الذي قدمه وليد المعلم، وسيّده من قبل، الذي يتحدث عن الصراع كما لو كان صراعاً مع وائل الحلقي (رئيس الوزراء)، وليس مع النظام برأسه وبنيته الأمنية والعسكرية الطائفية، وهنا يمكن القول إن بوتين أراد الضغط على النظام، وعلى إيران أيضاً كي يتعاملوا مع المفاوضات بروحيّة من يبحث عن النجاح وليس الفشل؛ معولاً على انتصار مقبل بالقوة الروسية. بل إن الدوائر المقربة من النظام السوري لم تتردد في الاعتراف بذلك بكل وضوح.
هل يعني ذلك أن الانسحاب كان جزءاً من صفقة روسية مع الأمريكان؟ من الصعب قول ذلك، فالانسحاب كان مفاجئاً لواشنطن، لكن التفاهمات الأمريكية الروسية على الحل تبدو صحيحة، وهي لا تعجب النظام ولا إيران، وقد لا تكون مرضية للسعودية وتركيا أيضاً.
ماذا يعني ذلك كله؟ يعني إننا صرنا في المرحلة الأخيرة من الصراع في سوريا، لكن هذه المرحلة قد تكون صعبة وطويلة؛ ومفتوحة على كل الاحتمالات في ظل تعقيدات المشهد على الأرض، بوجود قوىً يصنفها العالم إرهابية، بينما هي ذات حضور مؤثر وكبير، وفي ظل رفض إيراني تركي لفكرة الفيدرالية.
 بعد سنوات من الموت والتدمير من التهجير، سيكون من العبث الاعتقاد أن النظام سينتصر، لكن أوهام بشار ومحافظي إيران لا زالت تدفعهم للمزيد من المغامرة.
لو كان هناك بعض العقل والرشد في إيران، لأمكن التوصل إلى تفاهم بينها وبين السعودية وتركيا على حل مقبول لسوريا واليمن ولكل الملفات العالقة، بدل منح الوصاية والتأثير لمن لا يريدون خيراً بالمنطقة وأهلها، لكنها لعنة الغطرسة وغرور القوة التي ستصطدم بالجدار المسدود دون شك، بخاصة أن التطورات في اليمن تمضي في غير صالح إيران، فيما يتحوّل المأزق في العراق إلى صراع بين القوى الشيعية نفسها، وليس مع تنظيم الدولة وحسب، فضلاً عن مأزق حزب الله الكبير في لبنان.