د. علي العتوم

إنَّ الحال البئيسة التي وصلت إليها أمّتُنا اليوم وعلى مختلف المستويات، ولا سيّما الرسميّ منها، حالٌ لم تمرَّ بها في تاريخها، وذلك أنْ يقف مسؤولوها ضدَّ مصلحتها ومصلحة أهلها في أهمِّ القضايا، وهي قضايا الحقوق والعِزَّة والكرامة. إنّهم على الرغم من كثرة أموالهم ومعدّاتهم وإمكاناتهم لم يدخلوا مع هذا العدوِّ الغاصب يوماً حرباً حقيقية، بَلْهَ أنْ ينتصروا عليه في واحدةٍ منها، إنّما هي الهزائمُ المتوالية. وهم مع كُلِّ هذا الخنوع والهوان، يقفونَ ضدَّ مَنْ يُقاوِم هذا العدوّ!!
لقد مرَّ على فلسطين مغتصبةً حتى الآنَ قرنٌ من الزمان لم يسكت أهلها عن مقاومة المحتلّ بمختلف الوسائل والأساليب الممكنة. وإنَّ الناظر إلى هذه المقاوَمة اليوم – وإنْ كان يشترك فيها أكثر من فصيلٍ من أبناء فلسطين - لا تُخطِئُ العينُ أنْ ترى حركة حماس هي أكبرَها وأقواها، وأشدَّها نِكايةً بالعدوِّ وإيلاماً. وهي منظّمة شعبية تجدُ تأييداً معنوياً وماديّاً من قطاعات واسعة في البلاد العربية والإسلامية، ولكنَّها ليست مدعومةً بشكل حقيقي، من أيّةِ جهةٍ رسمية حتى ولا من السلطة الفلسطينية نفسها.
ولمّا كانت معظم الدول العربية على المستوى الرسمي تميلُ، بل تدعو إلى تركِ مقاومة الصهاينة وعقدِ صُلحٍ دائمٍ معهم والإقرار لهم بما استلبوه، وأنَّ معظم الفصائل الأخرى تذهب هذا المذهبَ، والمنظمة الأقوى التي ترى وجوبَ الاستمرار في مقاومة اليهود، هي حماس. فإنَّ الرسمية العربية اليوم تقفُ في حقيقة الأمر ضدَّ مشروعها من حيث أتى. ومن هنا يشترك معظمُ أصحاب هذه الرسمية مع المحتلّ في حصارها ومُعاقبتها، ويطالبون بشكل أو بآخر بتجريدها من سلاحها وإنهاء مقاومتها!!
إنَّ العربَ الدائرين في فلك الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا، ودول هذا الفلك نفسه وهو المعادي للإسلام، يريدون إنهاء قضية فلسطين منذ عشرات السنين، وخاصّةً في هذه الأيام التي ظهر فيها ما يُعرَفُ بصفقة القرن التي من معانيها تهويدُ فلسطين بكاملها، والتعفية على حقّ أهلها بالعودة إلى ديارهم، وتهجيرُ أبنائها منها إلى مناطق في البلاد العربية المجاورة كسينا وغيرها، وإنهاءُ أيّ نوع من المقاومة فيها. ومن هنا يُجمِعُ هؤلاء بصورة أو أخرى، على تمرير هذه الصفقة ومعاقبة أهل فلسطين نكايةً بحماس، ولا سيّما في الساحات التي لها فيها حضور أكبرُ من غيرها، كما في غزّة.
وقد تبدَّتْ هذه المعاقبةُ لغزّة بشكل فاقع. فلا ميناء ولا مطار، ولا ساحلَ كافياً ولا مرتّبات ولا كهرباء، ولا معابِرَ إلاّ بالقطّارة حتى في رفح المصرية، ولا سماح بقوافل إغاثة، مع مراقبة شديدة على كُلِّ ما يصلُ إليها من مساعدات ماديّة، إضافةً إلى اعتبار حماسَ منظّمة إرهابية عند كثير من هذه الدول المعاقِبة، غربية كانت أو عربية. وما من ريبٍ في أنَّ محاربة حماس تكمنُ – إضافة إلى كونها حركةَ مقاومة تُزْعِجُ أعداء الإسلام وبعض دول العرب – أنّها منظمة تنهجُ نهجَ الحركة الإسلامية العالمية بمنهجها الرشيد وأخلاقياتها السامية. ومع أنّها تسلكُ مسلكها الشريف في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، إلاّ أنَّ كُلَّ ذلك لم يشفعْ لها بشيءٍ حتى عندَ الدول العربية ذاتها.
ومع كُلِّ هذه المعاداة الشديدة لحماس ولجمهورها الفلسطيني وهذه المضايقات الآسرة لها من الأقرباء والغرباء على السواء، إلاّ أنّها ثابتةٌ على مبادئها صامدةٌ في مواقفها، خيارُها الأوّل للتحرير البندقيةُ وليست المفاوضات العبثية. وإننا – ونحنُ نرى هذا العَداء الواصب لها، نسألُ اللهَ أنْ يحميَها من كيدهم ويفتحَ لها أبوابَ رحمته. ولتعلمْ جيّداً هي وأخواتها المقاوِمات الأُخَر، أنها أملُ هذه الأُمّة ورافعةُ رؤوس أبنائها عالياً لعدم خضوعها لمحاولات الهزِّ والتمرين من هنا وهناك. ونحنُ وإنْ كُنّا نعلمُ أنَّ إمكاناتها متواضعةٌ ومحدودة بجانب ما يملكه العدوّ من إمكانات، إلاّ أنَّ الله سبحانه يُثمِّرُ القليل ويُضاعف المحدود ويجزي على النيّة.
فلتمضِ في طريقها الحقّ، ولتعلمْ أنّها آخرُ جدارٍ متينٍ لهذه الأُمّة، فإنْ هانت – لا سمح الله – هانت الأُمّة. وهذا ما يريده لها أعداء الإسلام في الداخل والخارج من عرب وأجانبَ، خسئوا وخابوا. فحيّاها اللهُ قاهرةً لأعدائها، ولتستمرَّ بالتصنيع والتدريب وتحدِّي الاحتلال بمسيرات العودة الميمونة رغم الجراح والدماء، فكُلُّها في ميزان أعمالها في الدنيا والأخرى. وما يُصيبها من آلامٍ وأوصاب يصيبُ عدوَّها منه أكثر. غير أنَّ المردودَ عليه خُسرانٌ، وعليها نُجحانٌ. وصدق الله العظيم: >ولا تَهِنوا في ابتغاءِ القومِ، إنْ تكونوا تألمونَ فإنّهم يألمونَ كما تألمونَ وترجونَ من اللهِ ما لا يرجونَ<. ورحم اللهُ شهداءنا في غزّة: أمير النمرة ولؤي كحيل، والآخرين في الخليل ونابلس وطولكرم، ورحمَ الله شهداءنا في مسيرة العودة وعجّلَ الله بشفاء جرحاهم.
واعلمي حماسُ، أنَّ ضرباتِك بأسلحتك المتواضعة ووسائلك المحدودة تُزعج العدوّ أيّما إزعاج، وتُسبِّبُ له القلق والاضطراب. واستمرّي بالردِّ عليه قصفاً بقصفٍ حسبما يتبجّح به ويدّعي، بل عاجليه بذلك أو بادريه، ولا تأبهي لتهديداته، لأنَّ اللهَ يُدافِعُ عن الذين آمنوا، ولا تَهِنِي وأنتِ تسمعين كلاماً من أبناء يعرُبَ يُدمي القلوبَ ويُقذي العيونَ ويُفتِّتُ الأكبادَ، فاللهُ معكِ ولن يَتِرَكِ أعمالَكِ، فهم المتخاذلون الذين لم يخلُ منهم عصر من عصور هذه الأمّة، فقد سبق أمثالهم من الخَوّارين والمُرجفين.
واعلمي أنَّ تحجُّجَهم ولا سيّما من نواطير العُربان وأزلام السلطة - وهم يتآمرونَ عليكِ – بموضوع الانقسام الفلسطيني، فهو وإنْ كان مؤلِماً، تحجُّجٌ واهٍ وساقط، لأنّ مثله لم يكنْ يوماً في تاريخ الأُمّة مانعاً من مقاومة العدوِّ ومطاردته، بل من فتحِ بلاده والتقدّم إليها للدعوة والجهاد. فتبّاً لهم ونذالةً من طابور خامسٍ وخوالِفَ من العملاء والخونة في هذه الأمّة المنكوبة بأمثالهم في كُلِّ الأزمان.}