العدد 1694 /17-12-2025

إبراهيم عثمان

تسلّط التطورات الأخيرة في غزة الضوء على بُعد اقتصادي متسارع يرافق المأساة الإنسانية، إذ تحوّل الدمار الهائل الذي خلّفته الحرب إلى محور نقاش عالمي حول مستقبل إعادة إعمار القطاع ومن سيسيطر على مساراته.

وبينما تتحدث الجهات الدولية عن "فرصة لإعادة البناء"، يرى خبراء الاقتصاد السياسي أن حجم الخراب غير المسبوق يفتح الباب أمام سباق كثيف بين القوى الإقليمية والدولية، يضع غزة على عتبة مشروع استثماري جديد يتجاوز البعد الإنساني ويكرّس منطق الربح في مكان كان يفترض أن يعود إلى سكّانه وأصحابه.

وتبرز في خضم هذا المشهد رؤية اقتصادية آخذة في الاتساع، تتعامل مع الدمار في غزة بوصفه بوابة لفرص استثمارية هائلة تتنافس عليها أطراف إقليمية ودولية. فخطط إعادة البناء المطروحة لا تقف عند حدود معالجة آثار الحرب، بل تمتد إلى إعادة تشكيل البنية الاقتصادية للقطاع وفتح مجالات جديدة للتطوير العمراني واللوجستي، بما يعكس توجهاً واضحاً لدمج غزة في منظومة اقتصادية إقليمية واسعة.

وبين الإعلانات الرسمية والمشروعات المقترحة، تتزايد المخاوف من تحوّل إعادة الإعمار إلى مشروع يكرّس مصالح الشركات الكبرى ويعيد رسم ملامح القطاع بعيداً عن احتياجات سكانه الأصليين.

وفي تقرير نشرته صحيفة "لانتيديبلوماتيكو" الإليكترونية الإيطالية بتاريخ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي تحت عنوان "الحوافز الاقتصادية وراء الهدنة ومصير غزة"، ذكر خبير الشؤون الدولية الإيطالي ماوريتسيو برينيولي أنّ الحرب الإسرائيلية على غزة "لم تقتصر على قتل البشر وتدمير البنى التحتية، بل فتحت الباب أمام عملية اقتصادية كبرى تهدف إلى تحويل الدمار إلى فرصة استثمارية هائلة، تتنافس عليها شركات إسرائيلية وغربية وخليجية".

وأضاف أن حجم الدمار "لم يكن مجرد نتيجة جانبية للصراع، بل أصبح، في المنطق الرأسمالي السائد اليوم، مدخلاً لمرحلة جديدة من تراكم الثروة تقوم على إعادة البناء على أساس مصالح المنتصرين".

وتابع أن "إسقاط أكثر من 200 ألف طن من المتفجرات على القطاع مهّد، عملياً، لتصفير البنية العمرانية والاقتصادية، في مشهد نادر في القرن الحادي والعشرين"، موضحاً أن تقارير الأمم المتحدة قدّرت تكلفة إعادة الإعمار الأولية خلال السنوات الثلاث المقبلة بنحو 20 مليار دولار، ضمن خطة أوسع تصل إلى 70 مليار دولار، مشيراً إلى أن هذا الرقم "يعكس حجم السوق الاستثمارية التي يراها اللاعبون الإقليميون والدوليون فرصة لا تُعوض".

ومضى الخبير الإيطالي قائلاً إن التخطيط الجاري لغزة يُدار حالياً بمنطق "المشروع العقاري الإقليمي" من قِبل شبكة معقّدة تضم مستشارين أميركيين وشركات استثمارية ومؤسسات استشارية مرتبطة بأنظمة الخليج، إضافة إلى دوائر نافذة في إسرائيل.

ولفت إلى أنّ وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش سبق أن وصف غزة بأنها "فرصة عقارية هائلة"، معلناً وجود "خطة عمل جاهزة" تتضمن إعادة تقسيم الأراضي وبناء مدينة جديدة "على أسس استثمارية تدرّ الأرباح تلقائياً".

وأشار برينيولي إلى أن "التصور المطروح لإعادة الإعمار لا ينطلق من احتياجات السكان الفلسطينيين، بل من منطق إنشاء منطقة استثمارية إقليمية مخصّصة لرؤوس الأموال العابرة للحدود".

وتابع أن المخطط الأميركي ـ الإسرائيلي يتجه نحو "إعادة إعمار القطاع فقط في الجزء الذي تسيطر عليه إسرائيل حالياً، أي نحو 53% من مساحته"، وهو ما تسميه واشنطن "المناطق الخالية من الإرهاب". وبين أن الأموال ستوجّه إلى هذا الجزء، فيما سيُترك النصف الآخر "معلّقاً حتى إشعار آخر"، معتبراً أن ذلك "يرسم خريطة اقتصادية جديدة هدفها خلق جيوب اقتصادية آمنة للمستثمرين، وليس إعادة بناء مجتمع مدمر".

وأضاف أن الشركات التي تستعد للدخول إلى مشروع إعادة الإعمار تشمل كيانات إسرائيلية وأميركية وسعودية وقطرية وبريطانية وإيطالية، في حين "لن يحصل الفلسطينيون إلا على دور العمالة الرخيصة في مشروع اقتصادي صُمّم ليدر أرباحاً على غيرهم".

ولفت الخبير الإيطالي إلى أن غزة "لا تُعامل بوصفها منطقة منكوبة تحتاج إلى إعادة إحياء، بل بوصفها سوقاً ناشئة تملك ساحلاً ثميناً وموارد طبيعية مهمة، وفي مقدمتها احتياطيات الغاز البحري المقدّرة بأكثر من 500 مليار دولار".

وقال إن السيطرة على هذه الاحتياطيات "تعد جزءاً أساسياً من الدافع الاقتصادي الذي يحرّك الجهات المنخرطة في مشروع الإعمار".

من جانبه، أكد المحلل الجيوسياسي الإيطالي في مؤسسة "ميد-أور" البحثية ومجلة "فورميكي" الإيطالية، إيمانويلي روسّي، أنه لا شك في أن انتهاء الحرب على غزة "يحمل جوانب اقتصادية مهمة، غير أنّ الاهتمام الأساسي لا ينصرف إلى مشروع إعادة الإعمار المسمّى "ريفيرا غزة" الذي أطلقه الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فبرغم أنه احتمال قائم، فإنه يبقى بعيداً إلى حدّ كبير عن جوهر المصالح الاقتصادية الفعلية".

وأوضح روسّي، في حديث خاص لـ"العربي الجديد"، أن "جوهر هذه المصالح يرتبط بتأثير استعادة الاستقرار وإعادة بناء التوازن – وبالتالي تحقيق السلام – على مشروع ممر الهند–الشرق الأوسط–أوروبا (IMEC)، الذي لا يمكن أن يتقدم من دون بيئة مستقرة في الشرق الأوسط، بما في ذلك في قطاع غزة تحديداً".

وأضاف أنّه "على الرغم من وجود أفكار لدمج غزة في المشروع، فإنها لا تزال غير واقعية في هذه المرحلة. ومع ذلك، فإن الصورة أضحت واضحة: نهاية الحرب قد تفتح الباب أمام تحولات واسعة، تجعل التقارب الجيوسياسي – مثل مسار التطبيع بين إسرائيل والسعودية – وتعزيز الترابط الجيو–اقتصادي في المنطقة أكثر قابلية للتحقق".

وأشار روسّي إلى أن "الأمن الإقليمي يشكل شرطاً أساسياً لنجاح ممر IMEC. وإذا كان هذا الممر سيمر عبر منطقة تعيش حالة حرب – والمقصود هنا الشرق الأوسط الذي طاولته تداعيات الحرب على غزة – فإن توفير هذا الأمن يصبح أمراً شبه مستحيل".

وختم المحلل الإيطالي بقوله إن "تحقيق السلام في غزة يحمل بُعداً اقتصادياً واضحاً، تدركه جيداً دول الخليج التي تسعى إلى بناء منظومة أمن إقليمي فعّالة قادرة على حماية استثماراتها، سواء تلك الداخلية أو المشاريع الكبرى ذات الطابع الدولي مثل IMEC".