العدد 1633 /9-10-2024
عاطف أبو سيف
عام مضى، كنت فيه مُجرَّد
خيال آخر في درب المُكرَهين على الخروج من البيت، يلتفتون خلفهم بحسرة وألم، ثمّ
يمسكون هواتفهم النقّالة يبحثون عن صور التقطوها قبل ساعات، فصارت الفردوس الذي
فقدوه. أعرف كيف يفقد المرء قلبه لأنّ كلّ من عاشوا فيه رحلوا، وكيف يفقد عقله
لأنّ كل ما يجري حوله غير منطقي، وكيف يفقد شغفه للغد لأنّ لا غدَ في أجندة الوقت
القادم.
شممتُ رائحة التراب قبل
أن يسقط عليه المطر، وشممتُ عطر الأرض وهي تنتفض وتهتزّ، ورأيت رعشتها تسري في روح
البلاد قبل أن تتفتّق أزهاراً ووروداً ونباتات تحمل أسماء من سكنوا البلاد
وعمّروها. شممتُ كيف تكون الحياة قبل الموت، وكيف تسبق كلّ شيء سواها. شممتُ
جيّداً فحولة البقاء في وجه عصف الفناء، وحدّقت جيداً في الزهرة وهي تتفتّح قبل أن
تعصف بها الريح.
ورأيت يد ملك الموت تقطف
الأطفال عن أشجار سامقة، ثمّ تضعها في سلال من قصص قبل النوم ويمضي. ورأيت رؤوس الأطفال
تقفز من السلَّة تريد أن تهرب نحو الحياة، كأنّها تواصل قهقهةً كانت بدأتها بين
يدَي أمٍّ فرحة بمولودها الأول. ورأيت ذلك كلّه، وعرفتُ أن التوازن بين الحياة
والموت لعبة الكون المستحيلة، وأعرف أنّ موج البحر الذي هاج وماج، وأنا أستحمّ في
ذلك الصباح، ظلّ عالقاً على جلدي، لا ملح، ولا رغوة الزبد ولا أنين آخر فلول الليل
وهو يغادر بعد غزو الصباح، لا شيء يشبه ذلك الإحساس والسماء تزدان بأقمار ونجوم
تسطع في قباب القلب. وكنتُ أركض نحو النجاة أخاف من يد الموت أن تقطف رأسي، وتضعه
في السلَّة القشّ، التي تمضي بها نحو عالم الساحرات الأثير.
سمعت صوت النائحات يندبن
موت العصافير. لم تكن ثمّة أعمدة يقفن خلفها ولا رواةٌ يعيدون تذكير الجمهور بقصص
البطولة التي اغتالها الخلود. كان الكون مسرحاً لما يجري كلّه، وظلّ الجمهور
صامتاً، ولم يصفّق أحدٌ. لم يُخرِج أحدٌ منديله ليمسح دمعةً تسلّلت خلسةً من خجله
وقلّة حيلته. سمعتهن يردّدن أسماء من رحلوا في بكاء تراجيدي كاشفات وجوههن، تاركات
صدى صوتهن يعود نسيماً يمسح القليل من القلق والخوف عن خدودهن المتوهّجة من شدّة
الفراق. وسمعت كيف يتوارى الصوت وراء ظلال الغابات المعتمة، حيث يرقد الغول ينتظر
فريسةً لم تأتِ طواعيةً، ولم يقدر على جلبها من مَخدَع الحياة.
أعرف كيف هاج موج البحر
يبرق رسالات سماوية لكلّ الذين عبروا الدروب الممنوعة، ووقفوا على كثبان الرمال
يلوّحون للأفق، وأعرف صهيل الحلم حين يقف على جناحيه قبل أن يُحلَّق قرب الشمس،
ورأيت كيف تنتظر المدن فاتحيها، وكيف تبرق بالنسيم لكلّ مُقبِل نحو تخوم الأسوار
المُقفَلة.
أعرف ذلك كلّه، وأعرف
الوجع حين تبكي أمّ ابنها، وحين يفتقد شابّ حبيبته التي أمضى عامَين يُقنع أمَّه
بأن توافق على خطبتها له، وحين تصير فتاةً رشيقةً بقدم وساق فقط، وتصير تحلم
بساقها وذراعها المدفونين في قبر أوصت والدها بأن يضعا عليه شاهدةً تقول: هنا يرقد
جزء منها. أنا أعرف ذلك كلّه. وأعرف الألم ومرارة الفراق حين تنظر امرأةٌ كهلةٌ
لبقايا عائلتها تحت الركام، ولا تقدر على رفع حجر واحد، تريد فقط أن ترى وجه
أحدهم، وتعتب عليهم أنّهم ذهبوا وتركوها، ولا تعرف أنّها هي التي بقيت وتركتْهم
يذهبون وحدهم حين أخطأها الموت وظلّت تندب حظّها أنّها لم تركب معهم عربتهم، التي
تسمَع وقع حوافر الخيل وهي تجرّها كلّ ليلةٍ، ثمّ بصمت تقول إنّ الأجلَ لم يأتِ
بعد، وتغفو لا تعرف إن كانت ستستيقظ في الصباح أم أنّ تلك نومتها الأبدية. وأعرف
حين يحمل الرجل رأسَ ابنه يبحث عن جسده، حتّى يكتمل موته، وكيف تركض الأمُّ بين
خيمة وأخرى تبحث عن بقايا أولادها، التي تناثرت أمام عينيها وسط لهب الانفجار،
وأعرف كيف تطير النافذة وتحطّ، قربَ ركن بيت آخر، فتشعر بالدوار لأنّها تركت جزءاً
من ذاكرتها في ركام آخر.
وأعرف كيف كتب الطفلُ
اسمَه على ذراعه، حتّى لا تضلّ الطريق بين أشلاء الآخرين، وكيف ترسم شابّة وجهَ
حبيبها على ورقة صغيرة، بعد أن ضاعت معالم وجهه تحت الركام. أعرف كيف يصبح البيت
قبراً، والنافذة صليةَ زجاج تُمزّق الصدر، والباب حاجزاً تقف خلفه الحياة، وأعرف
كيف يصير شاش العروسة قطعةً من نسيج الخيمة، وثوبُ الأمٍّ لحافاً يتدثّر به
الأطفال، وعلفُ الطيور وجبةً دسمة، وصرت أعرف كيف أجمع الحطب، لا لأوقد النار في
طريق نبيّ، ولا لأكشف الطريق لعابر سبيل تائه، كما صرت أعرف كيف أطهو أبسط
الأشياء، وأقنع نفسي بأنّ ما آكله أشهى وجبة في قائمة مطاعم العالم، وكيف أغسل
ملابسي من دون مسحوق غسيل وأنظّفها، حتّى تبدو بهيّةً ناصعةً، وكيف أخمّن أكثر
مكان آمن في كلّ مكان أكون موجوداً فيه، نظراتي تبحث في كلّ شيء تريد أن تستقرّ
على القليل من الطمأنينة التي تاهت عنّي. وأعرف كيف يظلّ ذلك كلّه عالقاً بي حتّى
بعد عام.
رأيت الوجعَ، وسمعت صوته
يسري في أجساد أصدقائي، ونحن نزجي ما منحنا إيّاه الموت من وقت، قبل أن يخطف
أحدَنا. ورأيت ذاكرة الجيران تنزف حنيناً لبيوتهم التي اغتالتها الطائرات،
والمدينة تقف في شوارعها كأنّها تصعد إلى السماء، ورأيت المساجد والكنائس ومزارات
الصالحين تنظر إلى السماء بعتب، ورأيت الدمع ينزل بحسرةٍ من جدران البيوت العتيقة،
يعزّ عليها أن تغادر الزمن، الذي ظلّت تقهره على مرّ السنوات. ورأيت الحياة والموت
يتجاوران، يمسك أحدهما بيد الآخر، في مقطع من فيلم قديم، يسيران في الطريق مثل
صديقَين قديمَين التقيا بعد فراق. ورأيتهما يتبادلان الأدوار ورأيت شارة الطريق
معتمةً لكنهما يمرّان من دون أن يرمش لهما طرف.
وشاهدت المدينة تصغر كلّ
يوم وتتداعى وتتقلّص وشاهدت الشوارع تفقد ذاكرتها وتفقد حواسها. شاهدت المدينة
تفقد بعضاً منها، ثمّ يختفي كلّها، ثمّ أختفي من إطار الصورة المعلّقة في صدرها.
المدينة التي لم تعد نفسها، والشوارع التي لم تعد تحمل أسماءها، سقطت اليافطات
الصغيرة التي تشير إلى هُويَّة الطريق، وسقط ما حمل اسم الطريق أو دالّته، المدينة
التي لم تعد تحتفي بوهج النهار حين تسطع الشمس ولا تستقبل النهار بلهفة العاشق حين
يجنّ الليل، ولا تنتعش حين يتطاير فوق جبهتها رذاذُ الموج، ولا تدندن لصوت حبّات
الرمل على مفارق الطرق. المدينة التي اغتالتها الطائرات حين حلّقت فوق مبانيها،
وكان الجندي يلهو بإزالة تلك المباني وهو يجلس خلف شاشة كمبيوتر كبيرة في القاعدة
العسكرية على الحدود، ويقول لحبيبته إنّهما مساءً سيشربان نخب زهوه المفرط.
نعم، شاهدت المدينة
تبتعد عني، شاهدتها مثل مشهد يبهت في شاشة السينما ولا يعود موجوداً. كنت أقود
سيارتي كلّ يوم في طريق مختلف، لأنّ الطرق كان يختفي بعضها إثر القصف والإزالة،
وكان الركام تلالاً من الحجارة والحديد، وآنية المطابخ المهشّمة، والزجاج المسافر
من النوافذ، وألعاب الأطفال التي تحتضر تنتظر من ينشلها من سكرات الموت المُحقّقة.
كلّ يوم أسافر في طريق جديدة، والزمن الصغير الذي كنت أقطع فيه الطريق من بيتي إلى
بيت الصحافة، وكلاهما لم يعودا موجودَين، صار يطول ويكبر، لأنّني كنت أقود في
طرقات بعيدة في أحياء المدينة بحثاً عن طريق لم تتداعَ البيوت في جانبيه وتغلقه.
شاهدت المدينة وهي تلوّح بيدها بوهن من تحت الركام، ركام بيوتها، ركام بناياتها
الشاهقة، ركام الشوارع المزفّتة، التي بقرت بطنها الطائرات فأخرجت كلّ ما جوفها من
رمل وحصى وحجارة، كانت ضعيفةً تتوجّع وكنت ضعيفاً وأتوجّع، وكانت نظرات عيني لا
تقدر على التحديق بالجرح النازف من وجهها، فأشيح نظري بعيداً أحاول أن أهرب، وكلما
هربتُ منها هربتُ إليها. هل كنّا واحداً يتألم؟ هل كنّا جسداً ممزّقاً بين ثنايا
الركام؟ هل كنّا بقايا دمعة نزلت من خدّ الكون ولم تستقرّ بعد؟ وكنت أبكي كلّما
فكّرت في ذلك كلّه.
كانت الحرب تمسك ممحاةً
لا ترحم، وتزيل من قائمة أصدقائي أقربهم إلى قلبي، فتزيل معهم جزءاً من ذاكرتي،
تمحو أسماءهم بقسوة قاتل، فأغمض عينَي أحاول أن أقنع نفسي بأنّي أحلم وأن الذي
يجري مُجرَّد هلوسات من حمّى أصابتني أو أصابت البلاد، فيما الممحاة تواصل إزالة
أسماء من أحبّ، فأفقد مع رحيل بعضهم جزءاً من طفولتي، ومع رحيل بعض آخر جزءاً من
شبابي، ومع رحيل جزء ثالث ما تبقّى من طموح وسعي إلى الحياة. والممحاة ذاتها كانت
تمتدّ لقائمة الأهل، فتزيلهم وتمحو بعضهم، وكنت أغمض عيني لا أريد أن أرى من أحبّ
يسقطون مثل بقايا الطبشور على سبّورة فصل مُهمَل. فتواصل محوها بذات القسوة، فتزيل
الجيران والشوارع والأزّقة والطرقات والمباني، التي كانت ذاكرتي تبهج وهي تنظر
إليها وأنا أسير في طرقات المُخيّم، الذي لم آلف مكاناً أكثر منه، وفي شوارع
المدنية التي ظلّت تغذّيني بالقصص وبالحكايات وببهجة الحياة.
لم أرَ أبي وهو يغادر
العالم إلى عالم آخر، ولم أتخيّل أنّ الرجل الذي منحني اسمي، وظلّ اسمي عالقاً به،
فُكنِّيَ بـ"أبي عاطف" سيذهب وسيأخذ معه جزءاً باهظاً وشاسعاً مثل حقولٍ
لا تنتهي من ذاكرتي. رأيته آخر مرّة وأنا ألوّح له من نافذة السيارة، وأنا أغادر
الشمال إلى الجنوب. ظلّ واقفاً في الطريق. رفض أن يخرج معنا فلم يجد في أيّ محاولة
منفعةً. قال: تعبت. قلت: كلّنا تعبنا. نظر لابني يوصيني أن أنتبه عليه كثيراً. لم
أرَ أبي وهو يغادر العالم، العالم الذي لم يمنحه كثيراً من الهدوء حيث ولد،
والنكبة تفرد رداءها الأسود فتغطّي عينيه وتكتم صرخةَ مجيئه إلى الحياة، وعاش طوال
حياته في المُخيَّم، وما إن انتهى من بناء بيت يليق بشيخوخته هناك، ذهب البيت
وأمضى آخر أشهر من عمره بلا بيت، حتّى رحل لبيته الأبدي.
نعم شاهدت ذلك كلّه،
وكنت لا أعرف ماذا أفعل. حين ترى من تحبّ يموت وتدرك أنّك أكثر عجزاً حتّى عن
التفكير في سبل إنقاذه، حين يكون همّك أن يأكل طفلك الذي أودعته الحرب أمانةً معك،
وتعرف أنّ ثلّاجات "السوبر ماركت" تفرغ كلّ يوم، ورفوفها تزول يوماً بعد
آخر، ثمّ يختفي كلّ شيء، ويصبح تحضير وجبة طعام متواضعة عملاً بطولياً. ثمّ حين
تمطر السماء تنظر بغضب للمزن تريد لها أن تصمت، وتريد للشمس أن تواصل وهجها،
وللصيف أن يظلّ شابّاً فلا تغرق لأنّك لن تجد ما تحتمي به من زخّات المطر. ثمّ
تفكّر أنّك تكره المطر، وتكره الغيم، وتكره الريح، وتكره كلّ شيء يجعل حياتك أكثر
قسوةً، وواقعك أكثر إيلاماً.
وشاهدتُ الدبّابات تدوس
سجّادات المصلين وعتبات أحلامهم نحو الفردوس، وشاهدتُ جرس الكنيسة يئنّ من وقع
القذائف على أسوارها، وآخر ظلال السفن التي رست في الميناء القديم تغوص في الرمل
مثل حكاية انتهت بموت الساحرة، والأسماك الصغيرة التي ظلّت عالقةً في الشباك وجدت
طريقها إلى اليمّ بسهولة بعد موت الصياد. شاهدت الجندي يكتب على جدران البيت بلغة
غريبة أنّه يعتذر لأنّه ترك الجدار واقفاً، كان يجب أن يهدمه، وبين يدَي سقط منشور
رمته الطائرة من السماء تقول لنا بصرامة إنّنا سنموت ولن ننجو، وشاهدت الصور
تتطاير من عدسة المصوّر وهو يصعد عالياً، وتناثرت الصور مثل حبّات أرز من نوافذ
طريق يحتفل بعريس جديد. وشاهدت "بلال" ينفخ في الهواء يبحث عن غيمة
يركبها ويذهب على بساطها نحو عالم لم تطأه قدماه، وعبد الجواد يرمي الحبّ لطيوره
الصغيرة، ويواصل تأمل الشجرة الصغيرة التي زرعها في الغرفة الصغيرة التي يعيشون
فيها، وشاهدت سليم يمسك بآخر كلمة في قصيدته الأخيرة، ويقول "كأنّ الوزن قد
كسر"، وشاهدت أحمد ومحمّد يخرجان من زنزانة السجن ينتظران الشهادة ولو بعد
سنوات، وشاهدت قوافلَ أصدقاءَ كلّهم يمضون في مروج تلمع أكواز الذرة الناضجة من
سيقانها تبتسم للشمس، وأخذت أحاول أنّ ألتقط لهم الصورة الأخيرة، لكن لا كاميرا
لدَّي ولا ألبوم، ثمّ جلست على ركام بيتنا أبحث عن ألبوم العائلة، حيث صور طفولتي،
فلم أجده.
شاهدتني وأنا أغادر
المدينة مثل حلم يقفز عن وسادة النائم ويسقط أسفل السرير. لم أبتسم ولم أبكِ، ولم
أستطع قول كلمة؛ حتّى نظرة للخلف أو تنهيدة أخيرة لم أقوَ عليها. كنت أحدق فقط في
ما تبقّى منّي وفي ما تبقّى من المدينة، وما تبخر منّي وما تبخّر منها، ثمّ أواصل
السير للخلف من دون أن أدرك أنّني حين كنت أعدّ خطواتي إنّما أذكّر نفسي بأنّ
الطريق لم تعد ذات الطريق، وكنت أعيد الكرّة مرّة أخرى كلّما نسيت عدّ خطوة تاهت
بين المسافات التي أقطعها فأقوم بالعدّ من جديد، وأرى ريش أجنحة الحمام يطير بلا
أجنحة وبلا حمام، يبحث عن صاحبه الذي انتزعته شدّة القصف منه، مثل ظلّ يبحث عن
صاحبه، أو بقايا ضحكة تبحث عن الشفاه التي سقطت منها، أو بقايا طلاء الأظافر يبحث
عن أصابع شابّة كان سيزيّنها لو لم تقطع الطائرة اليد وتمزّق الجسد. شاهدتني أقف
في ظلّ شجرة كينا أنهكها قصف المدرسة المجاورة لها، وأحصي عدد البيوت التي تهدّمت،
وعدد الأهل الذين استشهدوا، وعدد الأصدقاء الذين ذهبوا، ثمّ أظنّ أنّني أحلم، وأنّ
هذا كلّه لا بدّ أن يكون جزءاً من خيالِ مُؤلِّف يهوى العنف.
وشاهدت الفصول تتزاحم،
والأيام تركض في سباق ماراثوني، والأسابيع تلهث في لحاق بعضها ببعض، والشهور
تتسابق. لم أكن أجلس في مقصورة الشرف، ولم أحجز مقعداً أرى فيه المشهد من زاوية
نائية أو قريبة. كنت هناك وكان الزمن حاضراً قبل أن يأفل نجم المكان. وكان أكتوبر
يسبق الشهور كلّها، ثمّ يلهث منهكاً متعباً، وسمعت جارتنا تلعن الشهور كلّها،
وتندب أبناءها وزوجها وبيتها وشارعها، ثمّ يعود كلّ شيء. يعود الزمن، تعود القوافي
للقصائد، والشغف للحكايات، والألم للجرح، والنوافذ للبيوت، والمفاتيح لأقفال
البيوت، والراحة لكنبة صالون مهملةٍ فوق الركام، وتعود الشهور كأنّ الحرب ستبدأ من
جديد.
وأعرف أنّني لم أعد أحمل
منّي إلّا ما أفلحتُ بالقبض عليه من ذكرياتي الهاربة، وقائمة بأسماء أصدقائي
وعائلتي وجيراني، وأعرف أنّني أريد أن أتذكّر ذلك كلّه، وأريد أن أظلَّ عالقاً
بتراب البلاد جاء المطر أو جفّت الأرض، أريد أن أظلّ هناك حيث نحيب الروح يتردّد
صداه بين مسامات التراب، وفوق قباب التلال وخدود الموج وأوراق الأشجار وملح الأرض.