حسين عبد العزيز

على مدار السنوات الثلاث الماضية شكلت محافظة حلب عنواناً رئيساً للصراع بين النظام والمعارضة وداعميهما الإقليميين والدوليين. وبسبب مساحتها الكبيرة، وثقلها الديمغرافي، وتعدد مكوناتها الطائفية والأيديولوجية، وموقعها الهام المتاخم لتركيا، وانفتاحها على محافظات ذات قيمة عسكرية كبيرة (اللاذقية، إدلب، حماة، الرقة)، فشل كل طرف في تحقيق السيطرة الكاملة عليها.
غير أن هذا الواقع الميداني والفوضى العسكرية التي وسمت المحافظة خلال السنوات الماضية، بدأت تلقي بظلالها على سير المعارك في عموم سوريا، أو على الأقل في المناطق الشمالية الغربية الوسطى (الرقة)، وبدأت تلقي بثقلها أيضاً على مسار التسوية السياسية مع استمرار حالة الاشتباك الميداني.
منذ الهدنة العسكرية الأولى بدا أن الولايات المتحدة وروسيا عازمتان على صناعة واقع عسكري جديد لا مكان فيه للفصائل الإسلامية «المتطرفة».
لكن هذه المقاربة ظلت بين موسكو وواشنطن محل أخذ ورد أشهراً عدة حتى حسمت الإدارة الأميركية موقفها بعدما فشلت القوى الإقليمية وقوى المعارضة المسلحة في تمييز نفسها عن «جبهة فتح الشام» (النصرة سابقاً)، أو دفع الأخيرة إلى العمل داخل مكونات المعارضة الإسلامية المعتدلة.
ولذلك تم التفاهم بين الولايات المتحدة وروسيا على تقويض القوى الإسلامية المتطرفة (تنظيم الدولة، جبهة فتح الشام، جند الأقصى.. إلخ)، في مرحلة أولى، مع تعزيز القوى العلمانية السورية، بحيث ينحصر المشهد العسكري في الشمال بين ثلاث قوى (النظام، قوات سوريا الديمقراطية بمكوناتها العربية والكردية، فصائل الجيش الحر)، على أن يترك مصير القوى الإسلامية الأخرى (أحرار الشام، جيش الإسلام وغيرهما) إلى مرحلة أخرى من التفاهمات الأميركية الروسية.
لقد بدا واضحاً منذ أشهر عبر التفاهمات الأميركية الروسية أن مرحلة الجغرافيا العسكرية المتنوعة يجب أن تنتهي في سوريا، ولا بدّ من إعادة التموضعات العسكرية بشكل منفصل، وتحييد حلب عن الصراع الإقليمي الدولي، وكي يتحقق ذلك، لا بدّ من إنهاء مرحلة الفوضى العسكرية والتشابك الإقليمي الدولي في المحافظة لمصلحة ستاتيكو عسكري يعكس طبيعة المرحلة المقبلة، فلا تتحمل الولايات المتحدة ولا روسيا بقاء الوضع على ما هو عليه، مع إمكانية أن تتحول المحافظة إلى قاعدة عسكرية لوجستية للفصائل المدعومة إقليمياً في مرحلة أولى، قد تتحول بفعل تغيرات ما إلى منطقة آمنة في مرحلة ثانية.
بطبيعة الحال، لم يكن بالإمكان حدوث هذا التغير في المشهد العسكري لمدينة حلب دون صفقة دولية - إقليمية - محلية مشتركة، بمعنى أن سقوط المدينة لم يكن ليحصل بهذا الشكل لولا غياب الدعم الإقليمي (الخلفي) وتحديداً الدعم التركي.
فقد بدا واضحاً منذ السماح لتركيا بدخول سوريا عسكرياً تحت عنوان «درع الفرات» أن ثمة صفقة عقدت مع أنقرة تقوم الأخيرة بموجبها بخفض مستوى سقفها السياسي في سوريا وترك مدينة حلب للروس والنظام، مقابل الحصول على حصة جغرافية تحمي أمنها القومي وتحول دون تحقيق الأكراد لأي تواصل جغرافي غرب الفرات ومن ثم بين ضفتي الفرات. وترتب على هذه الصفقة غير المعلنة موافقة فصائل معارضة أهمها (أحرار الشام، فيلق الشام، نور الدين زنكي) على إرسال مقاتليها للمشاركة في عملية «درع الفرات»، فضلاً عن إرسال تركيا لواء «فتح حلب» إلى درعا، الأمر الذي أضعف القدرة القتالية للفصائل في حلب.
توازى ذلك مع إرسال بعض هذه القوى للعديد من مقاتليها إلى محافظة حماة للمشاركة في المعارك التي أطلقها «جند الأقصى» في وقت بدت فيه حلب أحوج إلى هؤلاء المقاتلين.
هذا المتغير أحدث شرخاً بين فصائل المعارضة داخل مدينة حلب، حيث نشبت معارك جانبية بين هذه الفصائل، كقيام جبهة «فتح الشام» بشن هجمات على «جيش الإسلام» و «فيلق الشام»، وحدوث شرخ بين «أحرار الشام» وجبهة «فتح الشام» بشأن عملية «درع الفرات»، فضلاً عن الخلافات الحادة بين «حركة نور الدين الزنكي» و «تجمع فاستقم».
لا شك في أن خسارة المعارضة لمدينة حلب أدت إلى خسارة إمكانية التحرك على الأرض، ما سينعكس على أدائها العسكري. ومع خسارة مدينة حلب، خسرت فصائل المعارضة التواصل الجغرافي بين ريفيها الشمالي والجنوبي، وستجد فصائل المعارضة نفسها مضطرة إلى تغيير أسلوبها وتكتيكها القتالي، في ظل غطاء جوي ناري مستمر لا قدرة عليه، وفي ظل الأعداد الهائلة من المقاتلين الشيعة القادمين من العراق وإيران وباكستان.
خيارات النظام
تشكل حلب أهمية كبرى لطرفي الصراع، ليس فقط من الناحية المعنوية، لأنها المدينة التي شكلت الساحة الأكثر عنفاً في الصراع، وأرّقت النظام عدة سنوات، بل لأن السيطرة عليها تشكل مقدمة للسيطرة على الريف الحلبي الكبير. وما بعد حلب لن يكون مثل قبلها على الصعيد العسكري، فسيطرة النظام على هذه المدينة الكبيرة يعتبر نقطة تحول عسكري مهم، حيث تشكل المدينة جبهة أمامية وخلفية معاً لمن يسيطر عليها، وتصبح منطلقاً سهلاً نحو الأرياف الأربعة للمحافظة، في وقت تصبح فيه المدينة قاعدة رجوع وحماية خلفية أمام أي هجوم طارئ ومفاجئ.
سيمنح انتصار حلب للنظام القدرة على التحرك في أماكن أخرى، قد تكون في محيط دمشق (دوما) أو نحو إدلب في مرحلة متقدمة، لكن أولوية النظام الآن هي استكمال ترتيب المشهد العسكري في محافظة حلب. وسيكون ريف حلب الجنوبي أحد أهم عناوين الصراع مع أجزاء من محافظة إدلب، في محاولة لدفع فصائل المعارضة إلى التراجع، والحيلولة دون تحويل هذه المنطقة إلى حرب عصابات (كرّ وفر).
كذلك قد يسمح انتصار حلب للنظام إن حصل على موافقة روسية بالمشاركة في تحرير محافظة الرقة واستكمال ما بدأه منذ أشهر حين وصل إلى طريق الطبقة، المدخل الجنوبي الغربي لمحافظة الرقة.
مرحلة ما بعد حلب تشكل مقدمة لتغييرات عسكرية كبيرة في سوريا، تطيح المعادلة التي ظلت قائمة طوال السنوات الماضية (غياب الحسم العسكري لطرفي الصراع)، لكن المدى الذي ستصل إليه هذه التغيرات يظل غامضاً إلى الآن بانتظار وصول الرئيس الأميركي إلى سدة الحكم.