العدد 1421 / 15-7-2020
عمار ديوب

لم يهنأ النظام في سورية بإعلان انتصاره على الشعب، وهو الذي كرّر أنها أزمة، وانتهت "خلصت" منذ العام 2011. أرسل الروس أخيرا مندوباً سامياً، ليحدّدوا له المسموح والممنوع في السياسات العامة الدولة السورية. لم يُسلِّم هو الراية كاملة للروس بعد، فيرسل ممانعته البائسة عبر لقاءاته مع الإيرانيين. يردّ الروس، وبمختلف الطرق، ويفهمونه أنهم هم فقط من أنقذوه من سقوط وشيك عام 2015 ، وهم من يحميه منذ 2011، وأن الخيار الوحيد المسموح له حالياً هو فك كل علاقة مع الإيرانيين. إفهامه ذلك يتم عبر تشكيل فصائل جديدة تابعة للروس، وإطلاق يد إسرائيل بقصف أية مواقعٍ إيرانيّة ترغب بشطبها، وحتى قانون قيصر، لم ترفضه روسيا بشكلٍ حقيقيٍّ، بل وأطلقت مواقف "محبّذة له"، حينما طُبِّقَ، وأن هناك مفاوضات جديدة وجديّة مع الأميركان. رافق ذلك، لقاءات تمّت من الرئيس الأسبق لائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، معاذ الخطيب، ومجموعة مثقفين، يُعرِّفون أنفسهم بالوطنية وبالهوية العلوية، وهناك لقاءات كثيرة سريّة، تجريها روسيا. إذاً لم يعد لدى النظام سبب حقيقيّ لإعلان الانتصار، فالمنتصر يكون مستقلاً، وطنيّاً بامتياز، بينما النظام، كلما يستعيد منطقة، يصبح أكثر ضعفاً إزاء الروس، بل والإيرانيين أيضا، وكذلك إزاء قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والفصائل التابعة للأتراك، بل وحتى أحمد العودة أصبح قائداً عسكرياً في درعا، وتابعاً للروس.

في الساحة السورية، ظهر أخيرا فاعلٌ جديد وهو "انشقاق" رامي مخلوف، وهو الموصوف بأنه رجل أعمال، وملاحقته قانونياً عبر أجهزة السلطة، وحماية الروس له، كما يرشح من أخبارٍ، وهذا يشير إلى تفككٍ عميق في بنية السلطة. ونضيف، أن البدء بتطبيق قانون قيصر، ووجود تململ روسي واسع إزاء تصلّب السلطة وعدم ملاحقتها شبكات الفساد، رافقته مواقف معارضة متعدّدة، ومتباينة جديدة، ولكن ومع ذلك، توضح أن لديها تلمّساً كبيراً إلى تغييرٍ قادم في الموضوع السوري، وسيشرك النظام والمعارضة، وسيشطب أقساما منها.

ظهرت عدة مبادرات وبيانات وإعلانات. أهمها إعلان الوطنية السورية، وهناك عدة بيانات، من شخصياتٍ مثقفة ومعارضة، تتبنّى رفض كل أشكال الاستئثار في شرق سورية، وأن تلك المنطقة يجب أن تمثلها هيئات سياسية من كل قومياتها، وبعيداً عن روح الاحتراب الذي له ألف سببٍ وسبب. إضافة إلى ذلك، وربما الأصل به، بروز تفاهمات، لم تنته بعد، بين الاتحاد الديمقراطي (الكردي) والتيار الكردي السوري الأقرب إلى مسعود البرزاني، والتنسيق مع قوى كردية أخرى، وبعيداً عن القوى العربية، وهذا ما أثار تخوفاً وحذراً، فكانت البيانات المتعدّدة، وكلّها تؤكد ضرورة إيقاف اشكال الصراع هناك، وتمثيل المنطقة الشرقية. تتوخّى البيانات والمبادرات تمثيل شرق سورية، ورفض أي استئثار بها من النظام أو "قسد" أو تحالف القوى الكردية، أو القوى العربية. هذا يعني أن هناك محاولات لصياغة رؤى سورية جديدة، كردية أو عربية أو سريانية، وسواها، وتستهدف رفع كل غبن تاريخي على إحدى القوميات أو حتى القبائل أو مدن شرق سورية.

المبادرات الجديدة ونقاش في الوطنية

المبادرات السورية هذه، لن تنتقدها هذه المطالعة بشكل مفصل هنا، وستركز على أفكار عامة نحوها. تفتقد المبادرة الكردية إلى البعد الوطني، حيث تقتصر على أكثرية القوى الكردية، وهذا يُضعف من قيمتها ويثير تخوفاتٍ كبيرة منها، سيما أنها تتم تحت الرعاية الأميركية أولاً، والفرنسية ثانياً. الرعاية تلك، وسرّية المفاوضات، تؤكدان ما ذكرت، وبالتالي تعمّق الانقسام العربي الكردي، أو بين قوميات شرق سورية، وهذا لا يقدّم أية رسائل اطمئنان للآخر، والأسوأ أن جهة كردية من المتحاورين الكرد ممثلة في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وبالتالي كان عليها رفض كل سريّةٍ للمفاوضات، وثانياً اشتراط التفاوض بحضور مراقبين من الائتلاف الوطني، وليسوا كرداً.

ردّت أطراف عربية ببيانات، تؤكّد على التخوف من الحوارات الكردية، وتعلن صفتها العربية، فقد سمّت نفسها "التحالف العربي الديموقراطي"، وبهدف تمثيل أبناء المنطقة الشرقية. وإذا نرفض كردية المفاوضات، فبالتأكيد نرفض هنا محلية أو إقليمية روح التحالف، حيث يمثل المنطقة الشرقية! وكذلك يتقصد مخاطبة "المجتمع الدولي" وكأنّه جهة سياسية مستقلة بذاتها، ويمثل منطقة مستقلة عن سورية، أو في سورية. هناك بيانات أخرى، تتحرّك في الإطار ذاته. لا يفيد هنا شيئاً القول إن المفاوضات الكردية من أجل موقف كردي موحد، أو أن يقول التحالف إنه يبتغي تمثيل مصالح الجزيرة العربية المغبونة تاريخياً، والتي تتعرّض لمخاطر شديدة من الأميركان والأتراك وروسيا والإيرانيين. المشكلة هنا أن "المهاترات" الكردية العربية تصمت عن تبعيتها للخارج، وتكفر السوري المغاير، الكردي أو العربي. وبالتالي، لا تلمس المبادرات أعلاه المؤشرات الدولية نحو التغيير، وتتحرّك كأدواتٍ سياسية وكأورق قوة لصالح هذه الدولة أو تلك، بينما كان يجب أن تتلمس إشكاليات الهوية الوطنية، والتي تتفاقم منذ أن تسلمت المعارضة والقوى السياسية، العربية والكردية، صدارة تمثيل الصراع في سورية في 2011، وكذلك أشكل النظام الوضع بأكمله، والذي يطيل أمده عبر ذلك.

شكل "إعلان الوطنية السورية" محاولة جادّة لتلمس مشكلات الهوية السورية المنقسمة، وإذ أغمض العين عن تحليل تلك المشكلات أو إشكالية التاريخ المُشكّل استعمارياً لسورية وكل البلاد العربية، فقد ركز انتباهه نحو المستقبل. الإعلان بذلك، يقدّم نفسه إعلانا سياسيّا بامتياز، ويبتغي الترفع عن تلك المشكلات، وتجميع السوريين، المنقسمين بشدّة، وتشكيل قوة سياسية وطنية. هدفه ذاك دفع أصحابه إلى صياغة إعلانهم بلغة تقريرية، كما يشير علي العبدالله وكذلك حاول راتب شعبو التطرق إلى الموضوع عينه ، بعنوان "إعلان الوطنية السورية بين الوطنية والقومية"، وهناك نقاشات عديدة على وسائل التواصل الاجتماعي، تتناول الإعلان الذي لم يقدم جديداً يذكر، والأسوأ أنه أهمل قضايا إشكالية في سورية، حيث لم يتصدّ لقضية العلاقة بين العرب وسورية؟ وانتماء الأكثرية السورية للعرب، وكذلك، لم يولِ انتباهاً هاماً لمسألة إسرائيل، ولم يسمّها بالاسم، كيانا عنصريا يحتل الجولان ومناطق عربية عديدة، ويرفض إنصاف الفلسطينيين، وضمن ذلك، لم يتصدّ الإعلان، وهو المنشغل بكيفية تشكيل الدولة السورية مستقبلاً، لقضية الاحتلالات، حيث تُجمع أغلبية التحليلات على أن روسيا ستُعطى سورية في أيّة تسويةٍ مع أميركا والدول المتدخلة في سورية.

يحاول الإعلان جاهداً ربط الوطنية بالمواطنة، وكأنّ الأولى هي الثانية والثانية هي الأولى. ولهذا يساوي الوطنية بـ"المساواة الحقوقية، والحرية الفردية، والمشاركة في الشأن العام وحياة الدولة." وروح الإعلان تتحرّك ضمن هذا الحيز. يمكن أن نتفهم ذلك، نظراً إلى التتفيه المبالغ فيه من النظام للمسألة الوطنية، واعتبارها ضد الخارج، ورفض الحقوق السياسية للسوريين. وقع الإعلان في الإشكال ذاته، فتجاهل الخارج، وركّز جلَّ أهدافه ومنطق رؤاه على الداخل. المشكلة هنا أن الخارج لا يمكن تجاهله، والداخل لا يقوم بذاته، وإذا كانت الإعلان يركّز على البعد الوطني للسوريين، وهو محق بذلك، وأن كل مشروع للتغير الوطني الديمقراطي يجب أن يكون بيد السوريين، فإن عدم مناقشة انتماء أغلبية السوريين للعرب، وأن إسرائيل هي من يحتل أراضينا وفلسطين، يعتبر خطأ، وهذا يفترض تصويبه، سيما وأن الإعلان يقدم ذاته، "صيغة متجدِّدة، ومنفتحة على التطور".

قضايا أساسيّة

سورية الآن على الأرض، وهي سوقٌ مفتوح للبازار عليه؛ أي على الرغم من كارثية وضعها وتهجير أهلها، فهي تتعرّض للبيع، نعم للبيع. روسيا التي حاولت، ومنذ سنوات، إغراء أوروبا وأميركا لإعادة إعمار سورية، لا تفكر أبداً بذلك الإعمار وبالتأكيد أوروبا أو أميركا. هنا، كيف يمكن النهوض بسورية؟ سياسياً، هناك شكل واحد للحكم، وهو الديمقراطية، ولا يجوز اللعب فيه بأية حالٍ، وتشكل مسألة الدستور مدخلاً دقيقاً لها. ولهذا هناك نقاشات متعددة، حول بنود الدستور، وكيفية تجاوز البعد الطائفي فيه، وتأمين مصلحة كل السوريين وحقوقهم، بغض النظر عن تمايزاتهم، القومية، والجنسية، والدينية، وسواه. ليست المسألة بسيطة، ولا يجوز التفاضل بأية قضية من هذه التمايزات. وبالتالي، الأساس فيها هو المواطنة، وشرعة حقوق الانسان، وأن يستقي الدستور والقوانين منهما كل البنود والفقه القانوني بأكمله. لا يكفي هنا القول بإعلان دستوري فوق الدستور، أو بمرحلة انتقالية لها دستورها وقوانينها، ولو كان الأمر مقبولاً في بدايته، فإن الأساس يظلُّ ما جاء أعلاه.

هناك مشكلة هنا، وتتعلق بسؤال الهوية، وكيف سيتم ضمان حقوق الأكراد أو العرب في شرق سورية، وقد ظلموا تاريخياً، ولم يستفيدوا من ثروات النفط والماء والقمح والقطن..، الموجودة في مدنهم بشكل رئيسي. الحقيقة المرّة أن تلك الثروات استفادت منها السلطة فقط، بينما نالت كل المدن السورية نصيبها الكامل من التهميش، وبقدرٍ متفاوت، ولهذا أسباب كثيرة، وليس قائماً على تطوير هذه المدن أو تلك. الفدرلة في حالة سورية تقود إلى صراعات قومية ومناطقية. الإشكالية هنا أن هناك اختلافات حقيقية، وكبيرة، وقديمة وتجدّدت بعد 2011، وبالتالي فإذا كان المطلوب من عرب سورية ضمان حقوق الأكراد وعبر حقوق المواطنة، أي الاعتراف الكامل بحقوقهم، وهذا ما تفعله أيّة قومية كبيرة في بلد ما، وتسعى نحو النهوض، فيصبح على الكرد أن يعودوا إلى المطالبة بالمواطنة المتساوية، وليس "النط" إلى الفدرلة أو حق تقرير المصير. يتطلب بناء وطنٍ أو بلدٍ موحد نقاشاً دقيقاً في هذه القضايا. الدستور هنا يجب أن يكون واضحاً بما يتعلق بالفدرلة والمواطنة وشرعات حقوق الإنسان، وبحقوق القوميات.

لم يعد ممكنا إعادة إنتاج النظام الحالي أو إصلاحه، وما يجري حالياً من مفاوضاتٍ دوليّة وإقليميّة، هي بقصد البحث عن تسوية لتفكيكه، وضمان مصالح الخارج، وايجاد أدواتٍ سورية تابعة لها، فهل يعي السوريون خطورة اللحظة الراهنة، ويتجهون نحو مشروعٍ وطني ديمقراطي، لا يسمح بوجود نظامٍ تابعٍ وهشٍّ ومسخٍ عن أنظمة العراق وسورية.