العدد 1412 / 6-5-2020

غازي دحمان

من عادة المحتلين تغيير أدواتهم وعملائهم في نهاية كل مرحلة، وعندما يريدون الانتقال إلى أوضاع جديدة. ورؤيتهم في ذلك أن الأدوات القديمة أصبحت أوراقا مستهلكة، ولا تصلح للخدمة في المرحلة القادمة التي تحتاج لأدوات جديدة أكثر كفاءة وقدرة على التعامل مع المتغيرات الجديدة.

ينطبق هذا الأمر على علاقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بالحاكم السوري بشار الأسد، فمنذ اليوم الأول لتدخل قواته في سوريا، نزع بوتين عن الأسد صفة رئيس الدولة، وقد عبر عن ذلك بأكثر من إشارة وصورة، سواء عبر استدعائه وحيدا في طائرة شحن روسية، أو وقوفه خلف الخط الأصفر مع ضباط قاعدة حميميم، وكذلك عدم إعلامه بزيارته إلى دمشق إلا بعد وصول بوتين ولقائه الضباط الروس.

انطلق بوتين من تعامله هذا مع الأسد من واقع أنه شخص ضعيف ومهزوم ورئيس لفئة صغيرة من السوريين، ولا يحكم سوى ربع مساحة سوريا، فضلا عن كونه شخصا معزولا من كل حكومات العالم، ومتورطا في جرائم، أقل ما يقال فيها أنها قذرة، من نوع اغتصاب المعتقلين وسرقة أملاك المواطنين وعفش منازلهم، بالإضافة إلى القتل المتعمد في السجون، والقتل بمختلف أنواع الأسلحة للعزّل والمدنيين، وفوق كل ذلك فاسد وسارق لثروات سوريا، بالتشارك مع أبناء أخواله وعمومته ومن لف لفهم.

اعتبر بوتين أن رائحة الأسد النتنة تجعله يأنف معاملته الند للند، وهو (بوتين)، مستعد أن يدلّس على العالم كله، عبر وزارة خارجيته وإعلامه، بأن الأسد رئيسا شرعيا لسوريا، لكنه غير مستعد لهضم هذه الفرية، مثل ذلك الصانع الذي ينتج مادة غذائية ويروّج لها أنها مصنوعة من أجود العناصر، لكنه يأنف وضعها على مائدته حتى لو أهلكه الجوع!

لم يفهم بشار الأسد هذه المعادلة، ولم يفهم أن بوتين الذي جاء لينقذه من ثورة شعبه لن ينظر له سوى باعتباره زعيم ميليشيا مهزوما عليه تنفيذ أوامر منقذه، وعليه كذلك أن يقبل بدور "المحلّل" للاحتلال الروسي، وكل الجرائم التي سترتكبها روسيا لنجاح مهمتها في سوريا، لا أن يصدق أن جيش روسيا جاء لتطبيق القانون الدولي وحماية الشرعية والحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها.

يحتاج بوتين إلى نقلة جديدة في المرحلة السورية، فالمرحلة الماضية وصلت إلى خواتيمها، بسياسات الأرض المحروقة وتوليفات مثل مناطق خفض التصعيد، وتفاهمات إقليمية ودولية من تحت الطاولة وفوقها. مرّر بوتين تلك المرحلة، خسر وربح، لكن أدوات تلك المرحلة لم تعد صالحة للعمل في المرحلة القادمة، لا على مستوى السياسات ولا من خلال الأدوات. يدرك بوتين ذلك جيدا، بدليل أن الأوضاع السورية دخلت مرحلة ستاتيكو، وهي حالة مضرّة بالمصالح الروسية، وتحتّم على بوتين تحريك المعادلات السورية لإنتاج أوضاع مناسبة أكثر للمصالح الروسية.

شكّلت الحملة الإعلامية التي شنّها الإعلام الروسي بداية هذا التحرك، فقد أطلق بوتين بالون اختبار ليبني على نتائجه عناصر خطة طريق المرحلة القادمة، وهذه نقلة نوعية في التعامل مع الأسد، وخاصة أن بوتين أسس لرواية يصعب أن يعترض عليها أحد في الداخل السوري، بمن فيهم أنصار الأسد، وهي أن الدولة السورية ستكون بخطر في حال استمر الأسد بإدارة السياسات في بلاده بذات العقلية. وبما أن الأسد لا يملك غير هذه الأساليب ولا يجيد العمل بغيرها، فإن بوتين سيوصله إلى الحفرة التي صمّمها له بعناية فائقة.

الخطوة التالية ستكون من السوريين أنفسهم، الذين بدأوا يصرخون من الألم، حيث تجاوز سوء الأوضاع السورية قدرتهم على التحمّل. فالحملات الروسية لن تتوقف، ستنوس فترة وتشتعل مرات. ولا شك في أن بوتين لديه أكثر من سيناريو لتحريك الوضع في سوريا باتجاهات تلائم مصالح روسيا، أو النخب التي تحكمها.

كل المؤشرات تذهب باتجاه واحد: بوتين يريد تركيب سلطة سورية جديدة، وبشار ورقة احترقت ولم يعد صالحا لاستخدامه في المرحلة القادمة، بل على العكس سيكون حملا ثقيلا وعبئا على بوتين. كان صالحا في مرحلة تجريب الأسلحة والترويج لها، ومرحلة السيطرة على الأصول الاستراتيجية لسوريا. تلك المرحلة انتهت، وانتقل بوتين إلى مرحلة الاستثمار في الإعمار، وهذه تعيق القوانين الأمريكية والأوروبية انطلاقها في ظل وجود الأسد، إذن لا بد أن يرحل. مصلحة روسيا، أو النخب القريبة من بوتين، هي الأهم، أما الأدوات فمن الطبيعي أن يتم رميها بعد أن تصبح غير صالحة للاستخدام..

لسان بوتين يقول: ألا يكفي أنني أنقذته من السحل في شوارع دمشق؟ هذا النصر لي وأنا من يستحق عوائده.