صالح النعامي

يثير الهدوء النسبي التي تشهده المواجهة بين قوى المعارضة السورية ونظام بشار الأسد في جنوب سوريا الكثير من التساؤلات؛ فلأول وهلة تبدو حقائق الجغرافيا والوقائع الموضوعية وحسابات القوى الإقليمية العربية، لا سيما الأردن، عوامل يفترض أن تسهل وتحفز حسم المواجهة لصالح قوى المعارضة في المنطقة.
ونظراً لأن هذه المنطقة تتاخم الحدود مع الأردن، فبإمكان الدول العربية التي تجاهر بسعيها لإنهاء حكم بشار الأسد أن توفر السلاح والإمكانيات العسكرية التي تمكن المعارضة من حسم المواجهة في هذه المنطقة بشكل سريع. ولا حاجة للتذكير بأن إشعال جبهة الجنوب سيفضي إلى تقليص هامش المناورة أمام نظام بشار الأسد والأطراف التي تقاتل إلى جانبه، ما سيفضي إلى تقليص التحديات التي تتعرض لها قوى المعارضة السورية في المناطق الأخرى، خاصة في محيط دمشق ومنطقة الشمال، بشكل يفضي إلى تمكن قوى المعارضة من استعادة زمام المبادرة في عموم سوريا. 
من ناحية ثانية، وعلى الرغم من أن قوات النظام استفادت من الغطاء الجوي الروسي في تثبيت الواقع الميداني جنوبي سوريا، فإن الطيران الروسي يبدي أقصى درجات الحذر من العمل في هذه المنطقة، خشية الدخول في المجال الجوي لفلسطين المحتلة، بشكل يتناقض مع قواعد التنسيق المشترك التي تم التوافق عليها بين إسرائيل وروسيا. فخلال بعض الغارات التي شنتها الطائرات الروسية على درعا وريفها في شباط الماضي اضطرت الطائرات الروسية إلى اختراق المجال الجوي لفلسطين المحتلة، وهو ما أفضى إلى احتجاج إسرائيلي لضمان عدم تكرار الأمر.
فضلاً عن ذلك، فإنه يفترض أن توجب متطلبات الأمن القومي الأردني تغيير الواقع السياسي والأمني في جنوب سوريا، على اعتبار أن الأردن عانى ويعاني من تبعات تفجر الأحداث في سوريا، حيث اضطر لاستقبال مئات الآلاف من اللاجئين، وهو ما فاقم أوضاعه الاقتصادية سوءاً. من هنا يفترض أن تفضي هذه العوامل مجتمعة إلى توافر بيئة تسمح بتغيير الواقع في جنوب سوريا لمصلحة المعارضة. لكن نظرة متفحصة تدل على أن الاعتبارات الإسرائيلية تحديداً تلعب دوراً مهماً في تقليص تأثير هذه العوامل؛ بل هناك ما يدل على أن مراعاة العامل الإسرائيلي ضمنت حتى الآن تثبيت الواقع الأمني والسياسي في الجنوب السوري.
حزام أمني لإسرائيل
ينطلق الفكر الاستراتيجي الذي يوجه حكومة تل أبيب من افتراض مفاده أن استتباب الأمور لمصلحة أحد طرفي الصراع في سوريا، ولا سيما في الجنوب، قد يفضي إلى تحويل هذه المنطقة التي تتاخم الحدود مع فلسطين إلى ساحة لانطلاق العمليات ضد العمق الصهيوني. 
فعلى الرغم من أن قوى المعارضة في الجنوب تنشغل بمواجهة النظام ولم يحدث أن أقدمت على تحرك ضد إسرائيل، فإن «لواء الأبحاث» التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، الذي يحتكر تقديم التقديرات الاستراتيجية لدوائر صنع القرار في تل أبيب، يجزم بأن إحكام «الجهاديين» سيطرتهم على سوريا، وتحديداً في منطقة الجنوب، سيغيّر البيئة الاستراتيجية لإسرائيل بشكل جذري، على اعتبار أنه يفتح المجال أمام تحول هذه المنطقة إلى قواعد انطلاق لاستهداف المستوطنات الصهيونية في الجولان المحتل والجليل (يديعوت أحرنوت، 21-5-2015). 
ونظراً إلى الخطورة التي تنظر بها إسرائيل لـ«الخطر الجهادي» في سوريا تحديداً، فقد خلص كتاب صدر قبل عام عن وزارة الحرب الصهيونية، وأعده كل من قائد سلاح البحرية الأسبق يديديا يعاري والمفكر الاستراتيجي حاييم آسا إلى المطالبة بإعادة صياغة عقيدة قتالية جديدة لتحسين قدرة الجيش على مواجهة هذا «الخطر».
وفي المقابل، فإن استتباب الأمور للنظام في جنوب سوريا يمثل تحدياً لإسرائيل أيضاً، على اعتبار أن هذا الواقع سيمكن الإيرانيين وحزب الله من استغلال سيطرتهم على المنطقة في بناء قواعد وبُنى تنظيمية وعسكرية لتوظيفها في العمل ضد العمق الإسرائيلي، إذا تطلبت المصالح الإيرانية ذلك، ولإعفاء لبنان من تبعات الجهد الحربي لحزب الله ضد إسرائيل. وتزعم إسرائيل بأن الإيرانيين وحزب الله شرعوا بالفعل في بناء قواعد في مناطق سيطرة النظام في المنطقة، وهو ما استدعى شن غارات إسرائيلية أفضت إلى تصفية عدد من قيادات حزب الله والحرس الثوري الإيراني. 
من هنا، فإن إسرائيل تخشى أن يفضي حسم المواجهة جنوب سوريا لأحد الأطراف إلى استدراجها للتورط في الوحل السوري عبر شن غارات وعمليات عسكرية قد تزيد الأمور تعقيداً بالنسبة إليها. ومما يفاقم الأمور سوءاً بالنسبة إلى الصهاينة حقيقة أنه لا يمكنهم إعادة تجربة الحزام الأمني، الذي دشنوه في جنوب لبنان، في أعقاب حرب لبنان الأولى عام 1982، حيث تبيّن لصناع القرار في تل أبيب أن هذه التجربة  أسهمت في تآكل قوة الردع الإسرائيلية بشكل غير مسبوق.
من هنا، فقد فطنت كل من إسرائيل والولايات المتحدة منذ أواخر عام 2012 إلى أهمية التنسيق مع حليفهما نظام الحكم في الأردن من أجل فرض حزام أمني واقعي «de facto security zone» في جنوب سوريا، يهدف بشكل أساس إلى الحيلولة دون حسم المواجهة في المنطقة لمصلحة أحد الأطراف، مع التركيز على محاولة استغلال الأردن نفوذه لدى قوى المعارضة في المنطقة للحيلولة دون تحول مناطق سيطرتها إلى ساحات انطلاق ضد إسرائيل.
وقد كان ألوف بن، رئيس تحرير صحيفة «هارتس» أول من كشف مرتكزات تفاهم نظام الحكم في الأردن مع إسرائيل والولايات المتحدة. 
الورقة الدرزية
إن الاعتبار المهم الآخر الذي يدفع إسرائيل إلى العمل على تثبيت الواقع الميداني في جنوب سوريا، هو خوفها من أن تفضي خسارة النظام معاقله في الجنوب السوري، ولا سيما في السويداء إلى المس بالدروز الذين يقطنون تلك المنطقة، ما سيفضي إلى ردة فعل إلى الدروز الذين يعيشون في إسرائيل ويخدمون في جيشها وأجهزتها الأمنية.
ونظراً للدور الكبير الذي يلعبه الدروز في حماية الأمن الصهيوني، فقد عقد ممثلوهم في إسرائيل في أيار 2015 عدة لقاءات مع وزير الحرب الصهيوني السابق موشيه يعلون للتباحث حول مصير الدروز في جنوب سوريا. ونقلت صحيفة معاريف في عددها الصادر بتاريخ 6-6-2015 عن نائب وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي أيوب قرا، وهو درزي، أن القيادة الإسرائيلية قامت «بنقل الرسائل المطلوبة لضمان عدم المس بالدروز جنوبي سوريا». ومن الواضح أن إسرائيل معنية بأن يساعد الأردن في صياغة الواقع الأمني في جنوب سوريا بشكل لا يفضي للمس بالدروز، إذ الجيش الإسرائيلي لا يضع في حساباته التدخل العسكري المباشر لحماية الدروز في المنطقة (هارتس 12-6-2015).
تنسيق وثيق
لقد كشف ملك الأردن عبد الله الثاني بإطلالة نادرة عن طابع التنسيق الإسرائيلي الأردني المشترك في ما يتعلق بسوريا. ولعل ما قاله الملك عبد الله في الاجتماع الذي عقده مع 11 سيناتور أميركي في11 كانون الثاني الماضي في واشنطن، وكشف عنه الصحافي ديفيد هيرست في تقرير نشره موقع «ميدل إيست آي» في آذار الماضي، يشي بعمق التعاون بين الجانبين. فقد أقر الملك بأنه استجاب لطلب قيادة الجيش الإسرائيلي وأمر جيشه بتدشين قناة اتصال بالجيش الروسي، على غرار القناة التي دشنها الجيش الإسرائيلي، إلى جانب تأكيده أنه بادر بالاتصال برئيس الموساد والطلب منه الالتقاء به لتحسين قدرة الطرفين على التنسيق المشترك في سوريا.
ونقل موقع «وللا» الإسرائيلي بتاريخ 18/2/2015 عن مصدر أمني صهيوني كبير قوله إن التعاون والتنسيق الأمني والاستخباري بين الأردن وإسرائيل بشأن سوريا «فاق كل التوقعات». 
لعبة مزدوجة
لكن في مواجهة الخدمات الاستراتيجية الهائلة التي تقدمها عمان، فإن حكام تل أبيب يمارسون لعبة مزدوجة من خلال التشكيك في قدرة الأردن على الصمود والمجاهرة بالكشف عن دور إسرائيل في ضمان بقائه، كما زعم مؤخراً وزير الحرب السابق موشيه يعلون(يسرائيل هيوم 27/7/2016). 
وبسبب عدم ثقتها في استقرار نظام الحكم في عمان، فقد أحبطت إسرائيل تنفيذ صفقة التزمت الولايات المتحدة بموجبها تزويد الأردن بطائرات بدون طيار ذات قدرات هجومية؛ حيث برّرت تل أبيب موقفها بأن هناك مخاطر على استقرار نظام الحكم، وأن هذه الطائرات يمكن أن تصل في النهاية إلى جهات «أصولية متطرفة» (معاريف، 4/7/2015). ولم تحرص إسرائيل على أدنى مراعاة لمصالح الأردن عندما قامت بتدشين مطار «تمناع» شمال إيلات، حيث تبيّن أن العمل في هذا المطار سيشوّش  على حركة الملاحة الجوية في مطار العقبة، كما تؤكد عمان ذلك. وما يثير الاستهجان أنه على الرغم من مظاهر السلوك الإسرائيلي السلبي الفج تجاه الأردن، فإنها لم تواجه بردة فعل من قبل نظام الحكم في عمان. 
قصارى القول، ما تقدم يدل على أن اعتبارات المصلحة الإسرائيلية تلعب دوراً مهماً في تثبيت الواقع السياسي والعسكري جنوبي سوريا. والمؤسف أن الأطراف العربية التي تبدي كل هذا الحرص على المصالح الإسرائيلية وتسهم بذلك في إطالة أمد معاناة الشعب السوري، تقدم على ذلك وهي تغض الطرف عن عدم تردد إسرائيل بالمس بمصالحها القومية.