أسامة أبو ارشيد

ينعقد المجلس الوطني، الذي يعد بمثابة برلمان منظمة التحرير، من دون توافق وطني، في وقتٍ تحدق فيه الأخطار بالقضية الفلسطينية، في ظل الحديث المتصاعد عن «صفقة القرن» الأميركية، التي ستصفي، إن كتب لها النجاح، ما بقي من فتات الحقوق الفلسطينية. ولو اقتصر الأمر على المخططات الأميركية - الإسرائيلية الشريرة، لقلنا إنه لا جديد هنا، لكننا نعلم جميعاً أن ثمة محوراً عربياً اليوم، تتزعمه السعودية، يريد حلّاً تصفوياً لفلسطين، حتى يَخْلُصَ لها وجه إسرائيل في لعبة المحاور الإقليمية ضد إيران. يدرك عباس، والدائرة المحيطة به  ذلك، ولطالما سمعنا زفيراً صادراً عنهم، محذّراً من مكر الأشقاء، وتسابق بعضهم على تقديم أوراق الاعتماد لإدارة دونالد ترامب على حساب فلسطين. لكن كل تلك التوجسات يجري وأدها ذاتياً في سياق المناكفات الفلسطينية - الفلسطينية التي تقترب من درجة الصبيانية، أو الاستهتار، كما وصفها الأمين العام السابق للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عبد ربه.
الأدهى أن يترافق هذا العبث الرسمي الفلسطيني، مع تصاعد التوتر في قطاع غزة المحاصر منذ أكثر من عقد، ومع استمرار الجرائم الوحشية الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين المشاركين في مسيرات العودة السلمية قرب حدود القطاع مع الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948. ثالثة الأثافي أن قيادة السلطة الفلسطينية هي الضلع الأكثر شراسةً في حصار القطاع وسكانه المليونين، بذريعة خروجه، أي قطاع غزة، عن «الشرعية» الوطنية، على الرغم من أنه لا توجد «شرعية سياسية» فلسطينية منذ أكثر من عقد، وعلى الرغم من أن مفهوم الوطنية لم يعد مُعَرَّفاً فلسطينياً. 
منذ سيطرة حركة فتح على منظمة التحرير الفلسطينية عام 1968، تحول المجلس الوطني الفلسطيني من المرجعية التشريعية العليا للمنظمة إلى أداة لترسيخ نفوذ «فتح». وظف الرئيس الفلسطيني الراحل، وزعيم الحركة حتى عام 2004، ياسر عرفات، المجلس الوطني لتوفير غطاء «وطني» لمغامراته السياسية، كلما تطلب الأمر ذلك. حدث ذلك في دورتي عامي 1972 و1973 في القاهرة، ثم في دورتي 1988 و1991 في الجزائر، وصولاً إلى الدورة العادية الأخيرة للمجلس عام 1996 في قطاع غزة، التي جرى فيها شطب أو تعديل مواد مركزية في الميثاق الوطني الفلسطيني، خصوصاً التي تنص على بطلان قرار التقسيم عام 1947، واعتبار فلسطين وحدة إقليمية واحدة غير قابلة للتجزئة. المفارقة هنا أن المجلس لم يكن يوماً «سيد نفسه» تحت قيادتي عرفات وعباس. إنه لا ينعقد من دون طلب من «الزعيم» الذي لا يسأل عما يفعل. وهو مثلاً عندما انعقد في دورة استثنائية عام 2009، في رام الله، فإنه انعقد بدعوة من عباس لإعادة تشكيل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، بإدخال ستة أعضاء جدد إليها، بما يضمن إحكام سيطرة عباس عليها. 
يبلغ اليوم عدد أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني 765 عضواً ما بين مستقلين ومنتمين إلى تنظيماتٍ حزبية أو مهنية أو فئوية. وعلى الرغم من أن الفقرة أ من المادة الخامسة من النظام الأساسي لمنظمة التحرير تنص على أنه «ينتخب أعضاء المجلس الوطني عن طريق الاقتراع المباشر من قبل الشعب الفلسطيني، بموجب نظام تضعه اللجنة التنفيذية لهذه الغاية»، فإن الانتخابات لعضوية المجلس لم تحدث يوماً. وتتذرّع قيادة المنظمة بالتعقيدات اللوجستية. أما الفقرة ب فتقول إنه «إذا شغر مقعد أو أكثر في المجلس لأي سبب من الأسباب يعين المجلس العضو أو الأعضاء لملء المقاعد الشاغرة»، فيما تعطي المادة 32 المجلس الوطني الحق في «ضم أعضاء جدد إليه من حين لآخر، حسبما يرى ذلك ملائماً، وبحسب ما تمليه متطلبات معركة التحرير ومقتضيات تعميق الوحدة الوطنية في ضوء أحكام الميثاق الوطني». المشكلة، أن المجلس لا يتحكّم حتى في عضويته، وكثير من أعضائه إما أنهم قضوا نحبهم، أو أنهم مصابون بالشيخوخة، أو أمراض أخرى، ولا يعرف أحد على وجه الدقة معايير تسمية الأعضاء وشطبهم. إنه قرار «الزعيم» لا المجلس. ولعل في شطب ياسر عبد ربه من عضوية المجلس أخيراً، مع التحفظ على شخصية الرجل وتاريخه، ما يدلّ على أن معيار العضوية من عدمه هو رضا الرئيس، وهو في هذه الحالة: محمود عباس. المهزلة الأكبر، أن يُناط بسفراء منظمة التحرير في الدول المختلفة تزكية أعضاء جدد لعضوية المجلس، كما جرى في الأسابيع الأخيرة، في تجسيد فاقع لمعنى أن: «تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّها»، بمعنى سيدها. 
انعقاد المجلس الوطني ضمن هذه الظروف والمعطيات يعد طعنة جديدة للمشروع الوطني  الفلسطيني الذي مَيّعَتْهُ القيادة المتنفذة في حركة فتح. في كانون الثاني الماضي، أعلن عباس في خطابه أمام أعضاء المجلس المركزي الفلسطيني الذي انعقد، ويا للمفارقة، في رام الله: «إننا سلطة من دون سلطة، وتحت احتلال من دون كلفة، ولن نقبل أن نبقى كذلك». وكان قال في آب 2013، إنه هو نفسه يعيش «تحت بساطير (الأحذية العسكرية) الإسرائيليين». إذن، لماذا هذا الإصرار العجيب منه على عقد المجلس الوطني الفلسطيني في رام الله (تحت بساطير الاحتلال)، خصوصاً أنه يعلم، كما قالت شخصيات وطنية في المجلس، في رسالتهم إلى رئيسه، سليم الزعنون، إن هذا سيمكّن إسرائيل من تحديد هوية من يحضر ومن لا يحضر. الأمر الآخر، ليس المجلس الوطني بصيغته الحالية وطنياً حقاً، فهو لا يضم فصائل مركزية على الساحة الفلسطينية، وتحديداً حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وكان قد جرى التوافق في كانون الثاني 2017، في بيروت، في اجتماع للجنة التحضيرية للمجلس الوطني، برئاسة الزعنون، على إعادة تشكيل المجلس، ليضم كل القوى الفلسطينية بناء على إعلان القاهرة لعام 2005. لا أظن أن سؤالاً عن سبب التنكر لذلك كله مهم هنا، فكلنا يعرف الإجابة: ليس المجلس الوطني سيد نفسه، ولا حتى منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية سيدتا نفسيهما. 
باختصار، ينبغي أن يتوقف هذا العبث بمصير فلسطين وقضيتها وشعبها. لا تملك قيادة الأمر الواقع الفلسطينية أي شرعية لتقود، ولا هي مؤهلة لذلك، وآن الأوان لأن نعلنها جميعاً، كفلسطينيين، ومن كل الخلفيات الفكرية والسياسية: كفى اختطافاً للمشروع الوطني الفلسطيني وتدميراً له، وكفى «تَبْزيراً» لقيادات مزعومة، ليس لها من حظٍّ على أرض الواقع إلا ما أنعم به عليها الرئيس الفاقد للشرعية من ألقاب وصفات.}