العدد 1696 /31-12-2025
أحمد عمر
للبطل صورٌ
كثيرة؛ منها البطل الحكيم، الذي يستخلص نفيس الحِكَم من خسيس الكلام، والبطل
المضحك، الذي ينطق بالفلسفة العميقة من خلال طرفة أو فكاهة أو دعابة، وهو بطل
عصرنا الكبير، والبطل الشاعر، الذي يليّن حديد الألفاظ ويطوّعها ويسبك بها أشعاره،
والبطل الذي قضى ربع عمره في السجن، ونجا من الموت تعذيبا. لكن البطل الأكبر هو
البطل الذي يصنع معجزة، ويلوي عنان الزمان.
كان حافظ الأسد
قد صنع معجزة لطائفةٍ معزولة في الجبال، فقيرة، مهملة، فأنزلها إلى المدن والثروة،
وصعد بها إلى مدارج الحكم ومشارف المجد. حكم هذا الرجل العلوي الذي لم ينل سوى
شهادة متوسطة شعبا من السنّة من غير ملّته نصف قرن. لقد قام بمعجزة، فاستحوذ على
السلطة العمومية، فصاد أسود الشام، وروضهم في سيرك المسيرات العفوية، وجعل شيوخهم
فرجة، وقد بلغ بطائفته درجة من التعظيم أنّ بعضهم كانوا يسجدون لصورته وتماثيله،
وأنهم جعلوا من قبره مزارا ومعبدا تساق إليه الوفود وطلاب المدارس في خشوع مصنوع.
لا بدّ للشعب من
بطل، حتى لو كان جميعهم أبطالا، ولن تجد شعبا كاملا من الأبطال؛ فأبناء الشعب
متفاوتون في الفروسية والذكاء والحكمة، ولا يخلو شعب من خونة وأخلاف، بل لا يخلو
بيت من ضالين وناشزين. خذ مثال أبي لهب في الأسرة الهاشمية، ومثال امرأة لوط
وامرأة نوح اللتين خانتا النبيّين الكريمين.
يظن كثيرون أن
مواطني الدول الإسكندنافية التي تتقدّم دول العالم المتقدم على مؤشّر الديمقراطية
جميعهم أبطال؛ فالرئيس يتنقّل في المواصلات العامة، ويركب الدراجة، ويُقاضَى، وقد
يُسجن. الأبطال غالبا عند هذه الشعوب هم أبطال الرياضة الذين يفوزون بالميداليات
والجوائز.
لكن البطل هو من
يغيّر مساق الحياة؛ البطل هو السلطان، يقول المثل: "يتغيّر الزمان بتغيّر
السلطان". وقد استطاع الشعب السوري الذي قدّم مئات آلاف الشهداء أن يغيّر
الزمان، وأن يجعل الحياة تدور مع عقارب الساعة، وهكذا يكون البطل الجديد هو أحمد
الشرع؛ هو الذي قاد الفصائل وجمعها، أو قاد أقوى الفصائل، وله خصائل الأبطال:
الصورة الحسنة، السجن الذي قضى فيه خمس سنوات، الكفاح، العيش في الكهوف، الولادة
في الديار المقدسة، التقوى، والأهم: النصر!
يظهر أن بعض
محبّي الشرع يطمحون إلى طمس صورة بطل العلويين السابق بشار الأسد وأبيه حافظ
الأسد، بتعظيم بطلهم الجديد بالصور كما كان يفعل أولئك، لكن جموعا سورية أخرى تخاف
من أن يطغى، فسكرة السلطان أشد من سكرة الشراب.
تندر مشاهدة صور
أحمد الشرع، بل تكاد تنعدم، حتى في الدوائر الحكومية. جال صحافي سوري في العاصمة
وما حولها إبان ذكرى مرور سنة على الثورة، فلم يجد سوى صورة واحدة لأحمد
"الفاتح" على زجاج سيارة أحد المواطنين، وهو لقب أُطلق عليه محبوه تيمّنا
بمحمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية، فبدأ تاريخ العصور الوسطى. وكان بعضهم قد حمل
صورا للشرع، فنُزعت بعد شكاوى، لكن أقواما تتوق لرفع صوره نكاية بأتباع النظام
السابق الذين كانوا يعلّقون صور رئيسهم تشفّيا، وبنوا له آلاف التماثيل، فالرئيس
رمز، على الأقل في المرحلة الحالية.
كانت سوريا بعد
الاستقلال تشبه قريشا في الجاهلية، ومسلمي صدر الإسلام؛ كان السوريون إبّان
الاستقلال قوما لُقاحا، يأبون المُلك. تكثر في منشورات الناشطين في وسائل التواصل
مقتطعات من مذكّرات سورية عن تنديد الصحافة بالرئيس هاشم الأتاسي حين استخدم
مضطرّا سيارة عامة مُلكا للدولة لإسعاف أحد أبناء أسرته. وكذلك قصة شكري القوتلي
المعروف بالمواطن الأول، الذي كان يصلّي في مكان مخصوص، فجاء أحد المصلّين وجلس
فيه، فحاولوا صرفه، لأن المكان محجوز للرئيس، فقال الرجل: هذا بيت لله ولا يجوز
لأحد احتلال مكان فيه. وواقعة ذكرها سهيل العشي في كتابه "فجر الاستقلال في
سوريا": كان الرئيس السوري السابق شكري القوتلي في زيارة لحلب عندما أمسك أحد
المتظاهرين بتلابيبه (أي من أعلى ثيابه مكان الطوق) وهو يصرخ: شكري بيك بدنا حرية،
فقال: اتركني يا ابني، رح تخنق رئيس الجمهورية، شو بدك حرية أكتر من هيك!
كان حافظ الأسد
بطلا لم يرَ العلويون مثله؛ وصل بالحيلة والمكر إلى سدّة الرئاسة في الشام
السنّية. والبطل لغة هو الذي يُبطل عادة أو خُلقا أو تاريخا أو مسارا ويفترع طريقا
جديدا. وقد أخرس الرجل الشعب السوري العظيم ومنعه من الاطّلاع على تاريخه. يذكر
عبد السلام العجيلي في كتاب "ذكريات أيام السياسة" أنه ذكر في محاضرة في
حلب أن موظفة في البريد اتصلت به تسأله أن رئيس الجمهورية يريد الاتصال به، فهل
يسمح لها بوصله به؟ فصفّر الحضور، فطلب منه نجاة قصّاب حسن، وكان مدير الجلسة أن
يتجنّب ذكر هذه القصة مرة ثانية.
الصور والتماثيل
ليست عُرفا سياسيا عربيا، ولا خُلُقا شاميا؛ بل إن التماثيل محرمة في أغلب المذاهب
الإسلامية، هو أمر مأخوذة من لدن غير العرب. حكمت عائلة الأسد أربعا وخمسين سنة
بالحديد والنار والخوف والرعب، إلى أن أسقطها الشعب السوري في ثورة قدّمت أمواجا
من الشهداء لم يقدموها في حرب استقلال ضد الاستعمار، ولم تسقط إلا بفصائل إسلامية
جهادية؛ فلا يفلّ الحديد إلا الحديد؛ طائفية تقابلها جهادية.
إن الدول العربية
لن تسمح بالديمقراطية في سوريا الجديدة، التي قد تفشو إلى الدول العربية، وستنظر
الدول العربية الشقيقة بعين الريبة إلى تواضع الشرع وزهده وتبسّطه. ولن تسمح
بالديمقراطية التي يتجنب الشرع ذكرها، ويذكر بدلا منها الانتخابات.