ماجد أبو دياك

كان من الطبيعي أن يواجه قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه مدينة القدس، ردود فعل عربية وإسلامية قوية نظراً لما تشكله هذه المدينة من أهمية ومكانة لدى العرب والمسلمين، إلى جانب ردة فعل الفلسطينيين في وقت كانت تشهد فيه المدينة المقدسة مخططات تهويد تسعى بالنهاية إلى ضم المدينة المحتلة للكيان الصهيوني.
فمن شرق العالم الإسلامي إلى غربه، ومن إندونيسيا إلى طنجة، ماجت الشعوب وهاجت رداً على القرار الخطير لترامب بالاعتراف بالمدينة المحتلة عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. وقد أعادت ردود الأفعال المدينة لمكانتها المميزة وإن كانت اعترت ردود الفعل بعض الضعف نتيجة لتوقف موجات الربيع العربي بفعل الثورات المضادة.
ردود فعل لا تهز الأنظمة
ردود الفعل على القرار كانت قوية -في عمومها- كما كان متوقعاً، ولكنها لم تكن قادرة على دفع المواقف الرسمية لردود دراماتيكية على الموقف الأميركي الذي أصاب لب الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، وهذا ما دفع المندوبة الأميركية في مجلس الأمن نيكي هيلي إلى التبجح بالقول: «السماء لا تزال هناك ولم تقع على الأرض» في إشارة إلى التهديدات الرسمية والشعبية لواشنطن بحدوث ما لا تحمد عقباه في المنطقة في حال إقدام ترامب على نقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة للكيان الصهيوني.
وبالتالي، لم تكن هذه الردود -على أهميتها- كافية لمواجهة قرار كبير وخطير من هذا النوع يتطلب إسقاطه أكثر من مجرد الخروج إلى الشوارع؛ حيث لن تتراجع عنه واشنطن إلا إذا شعرت بتهديد مصالحها في المنطقة، أو على الأقل تأثرت علاقاتها مع الدول العربية التي كان بعضها على الأقل متواطئاً مع القرار ومهد له الأرضية بمحاولة فرض ثقافة التطبيع والاعتراف بإسرائيل وإدانة الشعب الفلسطيني وتصويره بأنه باع أرضه لليهود!
ولم تتجه ردود الفعل إلى ممارسة ضغط شعبي حقيقي لإلغاء اتفاقات السلام مثل أوسلو ووادي عربة، وتحويل الحدود مع العدوّ إلى منطقة ملتهبة في الصراع والمطالبة بفتحها وإحلال ثقافة المواجهة مع العدو بدل المهادنة.
ويمكن توجيه الجهد الجماهيري نحو الأنظمة التي تقف حائلاً بين العدوّ والشعوب لتشعر الأنظمة أنها وعروشها مهددة إذا هي لم تستجب للحراك الشعبي، وليشعر الكيان بأن هذه الأنظمة التي تحميه لم تعد قادرة على ذلك.
وبمعنى آخر فإن الشعوب يجب أن تتوقف عن السعي لحماية رؤوسها من بطش الأنظمة، بل هي التي يجب أن تضغط على الأنظمة لتحقيق مطالبها، وتنفذ سلسلة من التحركات لتحقيق ذلك، بما يجعل الأرضية خصبة لثورات عربية جديدة.
ضعف وعجز المتضررين
ويمكن أن يكتسب التصعيد الشعبي زخمه، إذا تمكن من الاستفادة من الخلافات العربية على الموقف من خطة ترامب التي جعلت النظام المصري شريكاً في التنديد الشعبي بها، بسبب عدم توافقه مع السعودية التي يرى أنها حاولت تضييع دوره الذي أنعشه مؤخراً برعاية المصالحة الفلسطينية، فضلاً عن دخول الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز وابنه وولي عهده محمد بن سلمان على خط محاولات تطويع الرئيس الفلسطيني من خلال فرض شروط في عملية التسوية والمصالحة الفلسطينية.
أما الأردن فقد شعر بأن الخطة تضر بدوره في رعاية المقدسات الإسلامية في القدس، الذي وقع عليه في اتفاقية وادي عربة عام 1994، ويرى أن توطين اللاجئين سيفرض عليه فرضاً دون حصوله على تعويضات تتعلق به وبنظامه. لذلك كان موقف الأردن المعارض لقرار ترامب أكثر قوة وصلابة.
ولأجل ما سبق، ترى دولتا الأردن ومصر أنهما تضرّرتا من الإعلان لمصلحة تعزيز دور السعودية وهو ما يمكن أن يضعف موقفهما. ومن هنا، فلا بدّ من البناء على ذلك لتصعيد المعارضة الشعبية لقرار ترامب، واستعانة هذين النظامين بالمعارضة الشعبية لمواجهة الغطرسة الأميركية، وتطوير مواقف في المنطقة على هذا الأساس وفي كثير من الملفات.
بين المقاومة والتسوية
بيد أن الموقف الفلسطيني القائم على المقاومة بالتوافق بين جميع الفصائل، قد يشكل نقلة نوعية للمقاومة الفلسطينية التي ستتمكن في الضفة بالإضافة لغزة من تحقيق إنجازات تعيد المشروع الإسرائيلي خطوات إلى الوراء، وتمنع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتن ياهو من الاستمرار في التبجح بالسلام الإقليمي مع استمرار تهويد القدس والتوسع في الاستيطان.
إن أول المطالب الفلسطينية يجب أن تكون إلغاء اتفاق أوسلو ووقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، بما يؤدي للاتفاق على برنامج للمقاومة الشعبية والمسلحة ضد الاحتلال.
وفي سبيل ذلك، لا بدّ للسلطة وحركة فتح من إنجاح الحوار الفلسطيني ودمج حركتي حماس والجهاد في مؤسسات المنظمة وإجراء الانتخابات الفلسطينية وإعادة الاعتبار للمجلس التشريعي الفلسطيني. ومن الأهمية بمكان حصول هذا البرنامج على الدعم العربي والإسلامي فضلاً عن إمكانية انطلاق مقاومة من الأردن ولبنان وسوريا بعد تجاوز الصعاب التي قد تواجهها في هذه الدول.
وهذا الكلام ليس حالماً، وله من السوابق ما يعززه بانتفاضة 1987 التي جاءت بعد أن أحاطت بالقضية ظروف التجاهل من الأنظمة وخنوع كثير من الشعوب، وانطلاق انتفاضة عام 2000 وسط عملية سلام كان يعول عليها الشيء الكثير، وبروز ثورات في العالم العربي ونجاحها في أكثر من بقعة لدرجة أنها أوشكت على تغيير وجه العالم العربي لولا التآمر عليها.
والواقع أن أي تطور فارق بعد قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان، سيرتبط بالفعل الجماهيري والحراك الشعبي وخصوصاً في الداخل المحتل أو دول الطوق أو المحيط العربي الأوسع والمحيط الإسلامي.
ولكننا لم نر تحركاً واسعاً في الضفة والقدس، في دلالة على ضعف التنظيمات الفلسطينية وحاجتها لتجديد نفسها والتوافق على برنامج انتفاضة شعبية ومقاومة مسلحة انطلقا حتى الآن بفعل الجماهير وليس التنظيمات التي أثبتت عجزاً عن تفعيل الحراك داخل الأرض المحتلة، وعلى الأخص في الضفة.
وبدون هذا الحراك، لن يكون هناك تغيير دراماتيكي في فلسطين، لأن الفعل الجماهيري سيبقى مجرد حراك شعبي يتوقف عند الحدث ويتلاشى تدريجاً، دون أن يتمكن من إنشاء حركة جماهيرية سياسية منظمة تتصدى للموقف الأميركي وتعمل على إفشاله على الأرض، وتسعى للتأثير في مواقف الأنظمة لتغيير مواقفها من واشنطن، خوفاً من تغييرها هي نفسها.
ويجب الأخذ بالاعتبار أن التأثير بين الداخل الفلسطيني والمنطقة العربية متبادل، ويشكل أحدهما رافعة للآخر، وإن كان التحرك في الداخل الفلسطيني سيكون هو الشرارة التي قد تطلق إشارة التغيير في المنطقة وتوقف تحركات التطبيع والعلاقة مع العدوّ.
وإن نجح الحراك الشعبي المنظم -وهذا ما لم يحصل حتى الآن- فقد تكون له تأثيرات مهمة ليست سياسية فقط، بل في بنية الأنظمة، كقدمة لتغيير شامل يستعيد الثورات التي وقعت في 2011 مع الاستفادة من أخطائها ومحاولة تصحيحها وتجاوزها.}