حازم عياد

أمريكا فقدت دورها في القضية الفلسطينية، لا يمكن توقع أقل من ذلك من الرئيس محمود عباس؛ فلا معنى لكل المواقف والاجراءات دون الإعلان الصريح لهذا الموقف الواضح؛ فالمنطقة والعالم شهدا تحولات كبرى أنتجت قوى دولية جديدة على رأسها الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، وقوى اقليمية صاعدة على رأسها تركيا وإيران والباكستان واندونسيا والهند.
أمريكا عانت من انهيار نفوذها واهتزاز دورها منذ سنوات، غير انه تسارع في الأشهر الأخيرة بشكل مذهل، وكان من الجيد إعلان ذلك في قمة منظمة المؤتمر الإسلامي لينضم العالم الإسلامي إلى قائمة المدركين لهذه الحقيقة ولينضموا إلى العالم الجديد: عالم ما بعد القرن الأمريكي.
الانتفاضة الفلسطينية فرصة مناسبة لإعلان نهاية القرن الأمريكي، منهيةً الحديث عن صفقة قرن خيالية متوهمة متناقضة مع الحقائق التي تشكلت خلال السنوات بل الأشهر القليلة الماضية؛ فروسيا حاضرة بقوة في الإقليم ولاعب أساسي، ولا يمكن إنهاء الصراع في سوريا وتحقيق السلام دون التعامل معها ومع مصالحها، ونفوذها يمتد ويتوسع باتجاه مصر وشمال افريقيا بشكل لافت، أما الصين فهي حاضرة بفاعلية من خلال مشروعها «حزام واحد - طريق واحد»؛ مشروع يتضمن ممراً بحرياً يمخر مياه البحر الأحمر وموانئه، فمصالحها في تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة العربية وفرض السلام الصيني ستتفوق في أهميتها على المصالح الأمريكية قريباً.
القارة الأوروبية ممثلة بالاتحاد الأوروبي استخلصت العبر منذ وقت طويل، فالإدارة الأمريكية تحمل نزعة يمينية انعزالية تهدد أمن القارة والتوازنات فيها، سواء أكانت اقتصادية أم أمنية أم سياسية، ومصالحها المتشابكة مع العالم العربي أعظم وأعرق من رهنها بالمصالح الأمريكية ومستقبل الكيان الصهيوني. 
فأمن المتوسط وهاجس الهجرة ومستقبل العلاقة مع العالم العربي الممتد على طول شواطئ المتوسط وممراته البحرية بالنسبة إلى القارة الأوروبية أهم بكثير لأوروبا من ان يرتهن بالرؤية الأمريكية الإنعزالية، فضلاً عن ذلك كله فإن التاريخ المشترك بين العرب والأوروبيين أعرق من مثيله الأمريكي يمتد إلى مئات السنين، ولا يمكن اختزاله بكيان صهيوني عابر لم يتجاوز عمره 70 عاماً من الصراعات والأزمات المدمرة التي تهدد التعايش بين شمال المتوسط وجنوبه. فهناك قوى إقليمية صاعدة ذات نزعة ورؤية واستراتيجية مستقلة عن الإرادة الأمريكية تعد مثار إعجاب في جوانب، ومقلقة في جوانب أخرى في ذات الوقت.
فتركيا حاضرة في الإقليم كقوة ناعمة اقتصادياً وسياسياً؛ باعتبارها نموذجاً ديمقراطياً، فضلاً عن توسع حضورها السياسي والعسكري؛ إذ انها موجودة الآن في الخليج العربي كاسرة الاحتكار الأمريكي والإيراني، وموجودة في البحر الأحمر على سواحل الصومال، وموجودة في بحر العرب من خلال المناورات المشتركة والتعاون مع باكستان، بل حاضرة في جنوب شرق آسيا من خلال التعاون العسكري مع البحرية الاندونيسية. 
الأهم من ذلك ان تركيا تلعب دوراً قيادياً في الإقليم العربي، خصوصاً في الأزمة السورية والعراقية، وفاعل مؤثر يتعاظم دوره في الملف الفلسطيني، ما يساعد على تحقيق التوازن المطلوب مع القوى الإقليمية الأخرى الصاعدة في المنطقة، ويمهد الطريق لملء الفراغ الناجم عن فقدان دول عربية لدورها القيادي في العالم الإسلامي وغيبوبتها المفرطة وانعدام الرؤية لدى قياداتها السياسية.
لا يمكن تجاهل إيران كقوة جيوسياسية مؤثرة لا بدّ من التعامل معها بعيداً عن سياسة الاحتماء بالكيان الصهيوني التي يروّج لها بعض المساكين الذين فقدوا أدوارهم السياسية والقيادية في العالم العربي والإسلامي، واستنزفوا في صراعات وحروب إقليمية معتمدين على إدارة أمريكية مهزوزة ومأزومة خذلتهم اكثر من مرة، وعمقت أزمتهم وأبعدتهم عن محيطهم العربي والإسلامي، وجعلتهم أكثر انفصالاً عن الواقع وعن المشهد المتطور في النظام الإقليمي والدولي.
نهاية الدور الأمريكي في الملف الفلسطيني وفي ما يسمى عملية السلام يعد ضربة قوية للنفوذ والوجود الأمريكي في المنطقة، ضربة طال انتظارها؛ فالوجود الأمريكي راهن طويلاً على القضية الفلسطينية كوسيلة لبسط نفوذه وممارسته واستعراضه؛ نفوذ طالما تكرس لخدمة الكيان؛ أمر ضاق العرب والمسلمون به ذرعاً، لتأتي انتفاضة «العاصمة» لتنهي مخاضه العسير؛ فعجز أمريكا عن نصرة حلفائها الأقوياء في جنوب شرق آسيا مؤشر قوي على انهيار نفوذها ومركزها العالمي؛ إذ ان طوكيو وسيؤول حليفان مهمان لدعم مركزها الاقتصادي في النظام الدولي كقوة قائدة ومتزعمة للنظام الدولي ومتحكمة بمفاصله الاقتصادية، وخسارتها وانضمامها إلى السلام الصيني يعني نهاية حقبة الهيمنة الاقتصادية لأمريكا ولعملتها «الدولار» ولأسواقها.
خسارة أمريكا في جنوب شرق آسيا أعظم بكثير من خسارتها في منطقتنا، ونزعتها للعزلة تعبير عن عجز منعها من التصعيد مع كوريا الشمالية؛ فكيف مع الكيان الغاصب والفاقد للشرعية، ستتخلى عنه عاجلاً أو آجلاً، فهو لا يعادل شيئاً إذاً ما قيس باليابان وكوريا الجنوبية، فالكيان مجرّد وهم وحلم وأسطورة أيديولوجية لدى حفنة من اليمين المتطرف وبعض الانجيليين المهووسين «بحرب مجدون» في أمريكا.
انتهاء الدور الأمريكي حقيقة واقعة وملموسة تأخر العرب كثيراً في التعامل معها والاعتراف بها، بل ان بعضهم يصر على انكارها بسذاجة وسخف منقطع النظير؛ إذ حان الوقت لبدء الاستعدادات وبذل الجهود للتكيف مع هذه الحقيقة، أما من يعولون على أمريكا والكيان فهم مجموعة من السطحيين السذج الذين راهنوا على الوهم، وباتوا مثار شفقة وسخرية في المنطقة العربية لكثرة ما أنفقوا على هذا الوهم، خصوصاً في الأشهر الأخيرة.}