العدد 1666 /4-6-2025
مأمون فندي
الحديث
عن «اليوم التالي» في غزة يجب ألا ينحصر في إزالة الركام أو إعادة الإعمار، بل هو
سؤال أخلاقي وقانوني يفرض نفسه على الإقليم والمجتمع الدولي بأسره. فاليوم التالي
ينبغي أن يُعنى بالمحاكمات، على غرار محاكمات «نورنبيرغ» التي أعقبت الحرب
العالمية الثانية بعد التنكيل باليهود في ألمانيا وبولندا.
في
«نورنبيرغ»، استندت الأدلة إلى عظام وملابس وشهادات ناجين. أما في غزة، فالأدلة
مصوّرة وموثقة صوتاً وصورة، في كل هاتف جوَّال، لتوثّق إبادة ممنهجة نفَّذها
الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين.
ما
جرى في غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023 لا يمكن وصفه بالحرب؛
فالحروب لها قواعد. ما حدث ويحدث هي حرب إبادة، بنيَّةٍ واضحةٍ وفعلٍ مُمَنْهَج.
إنَّها مأساةٌ إنسانيةٌ وقانونيةٌ غيرُ مسبوقةٍ في العصرِ الحديث. ولكي يستعيد
النظام الدولي توازنه، لا بد من مساءلةٍ حقيقيةٍ تعيدُ الاعتبارَ للضحايا، وتضع
حدّاً لسياسات الإفلات من العقاب.
محاكمات
«نورنبيرغ» لم تكن فقط محاكمة لقادة الحقبة النازية، بل جاءت لتأسيس قيم قانونية
جديدة، أبرزها مبدأ المسؤولية الفردية عن الجرائم الدولية، وإلغاء الحصانة لأي شخص
مهما كان منصبه. هكذا يجب أن يكون «اليوم التالي» في غزة.
ما
ارتكبته حكومة بنيامين نتنياهو، التي ضمت أكثر العناصر تطرفاً في المجتمع
الإسرائيلي، من أمثال سموتريتش وبن غفير، يفوق ما فعله هتلر من حيث الوحشية،
باستخدام أحدث أدوات الإبادة الجماعية. لم تُستخدم أفران الغاز، بل استُخدمت قنابل
أميركية متطورة لحرق البشر والمزارع أمام عدسات العالم، في بثٍّ حيٍّ يوثِّق القتل
الجماعي المتعمَّد للمدنيين، واستخدام التجويع سلاح حرب، والتدمير الممنهج للمستشفيات
والمدارس ومخيمات النازحين. كلها جرائم حرب كما نصّت على ذلك محكمة العدل الدولية
والمحكمة الجنائية الدولية.
التوثيق
الحي للإبادة هو أيضاً نوع من إرهاب الدولة، كما عرّفته القوانين. فالإرهاب لا
يقتصر على القتل، بل يشمل بثّ الرعب وتخويف الشعوب من المصير نفسه. وحين قال وزير
الدفاع الإسرائيلي إنه «يحارب حيوانات»، لم يكن يقصد سكان غزة وحدهم، بل كل العرب،
وهو ما يظهر في شعارات المتظاهرين الإسرائيليين الذين يهتفون «الموت للعرب».
«اليوم
التالي» الحقيقي لا يمكن أن يكون مجرّد مرحلة سياسية أو إنسانية، بل يجب أن يكون لحظة
قانونية وأخلاقية بامتياز، تفصل بين الضحية والجلاد، وتحاسب ولا تساوي.
نُسج
«السابع من أكتوبر» في الغرب كأنه «11 سبتمبر الإسرائيلي»، مع أن ضحايا الاحتلال
الأميركي للعراق وأفغانستان تجاوزوا مئات أضعاف ما حصل في 11 سبتمبر (أيلول) عام
2001. لكن هذا التاريخ جرى توظيفه لتبرير إبادة الفلسطينيين وسياسات التطهير
العرقي والاستيطان.
«السابع
من أكتوبر» لا يمكن فصله عن سياق الاحتلال العسكري الشامل والمستمر منذ عقود. ووفق
القانون الدولي، فإن مقاومة الاحتلال، بما في ذلك اللجوء إلى القوة ضد أهداف
عسكرية، هو حقّ مشروع، حسب اتفاقيات جنيف والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977،
وبدأ تنفيذه في ديسمبر (كانون الأول) عام 1978.
أما
الرد الإسرائيلي بعد «السابع من أكتوبر»، فقد تجاوز كل حدود القانون والإنسانية،
باستخدام قوة مفرطة ومدمِّرة ضد المدنيين، وتخريب البنية التحتية، وفرض حصار
وتجويع استمر نحو عامين. ما حدث هو عقاب جماعي لشعب بأكمله، ولا يجوز أخلاقياً أو
قانونياً مساواة الفعل المقاوِم ضمن سياق الاحتلال بهذه الجرائم واسعة النطاق.
السؤال
الأساسي اليوم ليس عن إعادة إعمار غزة، بل عن العدالة لغزة. ويمكن للعالم العربي
أن يتحرك عبر ثلاثة مسارات رئيسية: أولها المحكمة الجنائية الدولية، التي تمتلك
ولاية على الأراضي الفلسطينية وفتحت تحقيقاً منذ عام 2014، لكنها تواجه ضغوطاً
سياسية تُعرقِل العدالة، مما يستدعي دعماً دولياً لتسريع التحقيق وضمان المحاسبة.
المسار الثاني هو إنشاء محكمة دولية خاصة، كما حدث في يوغوسلافيا ورواندا، لمحاكمة
الجرائم المرتكبة في غزة ضمن سياق قانوني مستقل ومُلزِم. أما المسار الثالث، فهو
تفعيل مبدأ الولاية القضائية العالمية، بحيث يمكن محاكمة المجرمين أمام محاكم في
دول تسمح بذلك، مثل بلجيكا وإسبانيا، وهو مسار واقعي أثبت فاعليته في قضايا سابقة.
العدالة
لا تقتصر على الحكومات، بل تتطلب من المجتمع المدني العربي توثيق الجرائم، وجمع
الأدلة، وتقديم الملفات لدعم مسارات المحاسبة. فلا سلام من دون عدالة.
المعسكر
المعادي للعدالة يزعم أن المحاسبة تُعرقل جهود «السلام»، لكنَّ التجربة تُثبت أن
التسويات غير القائمة على العدالة لا تُنتج سلاماً دائماً، بل مجرد وقف مؤقَّت
لإطلاق النار. في رواندا، لم تبدأ المصالحة إلا بعد المحاسبة، وفي البوسنة لم
يتحقق الاستقرار إلا بمحاكمة القادة العسكريين.
العدالة
والقانون هما أساس الدولة الفلسطينية التي يطمح إليها العرب، فلا دولة دون منظومة
قانونية. «اليوم التالي» في غزة ليس لحظة إعادة بناء مادي، بل لحظة قانونية
وأخلاقية بامتياز.
تتأثر
هذه المقاربات بشكل كبير بالرغبة في حماية المصالح الاقتصادية الحيوية (مثل البنية
التحتية النفطية)، والحاجة إلى تحقيق الاستقرار الإقليمي الذي يُنظر إليه على أنه
أساس للرخاء والتنمية. وقد دفعت هذا المصالح إلى التعامل المباشر مع إيران، حتى لو
كان ذلك يعني تجاوز الحلفاء التقليديين مثل الولايات المتحدة في إدارة بعض
ديناميكيات الأمن الإقليمي.
ثامنًا:
تراجع قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية
تركز
الرواية السائدة في الإقليم على الدولة التي توفر التقدم الاقتصادي والاجتماعي تحت
قيادة قوية. من الواضح أن الديمقراطية السياسية غائبة عن مجمل مناقشة التحول في
دول المنطقة، وما تبقى هو حديث عن الحريات الشخصية فقط.
يقتصر
الاهتمام بحقوق الإنسان في المقام الأول على الاعتراف بـ"الأزمة الإنسانية في
غزة"، والتي أخشى أن تجعل من القضية الفلسطينية مجرد قضية إنسانية لشعب بلا
حقوق.
إن
مناهج السياسة الخارجية لترامب، هي مناهج "معاملاتية" وتعطي الأولوية
للصفقات الاقتصادية والاستقرار، وتتجاهل تمامًا قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان.
إن
تركيز الجمهور العربي على ضرورة تحسين الظروف المعيشية اليومية لا يعني أنهم غير
مهتمين بتحسين الحكم أو أنهم يرفضون الديمقراطية. لا يعتقد العرب -كما أشار
الباروميتر العربي في استطلاعاته- أن الديمقراطية سيئة بطبيعتها، وبدلًا من ذلك،
فقد تبنوا نهجًا قائمًا على النتائج تجاه الديمقراطية، نهجًا لا يوفر الشرعية وحكم
القانون فحسب؛ بل أيضًا الظروف الاجتماعية والاقتصادية المزدهرة.
في
الختام؛ كيف سيبدو الشرق الأوسط إذا تفاعلت هذه الاتجاهات الثمانية وغيرها مع
بعضها البعض؟ وكيف ستبدو ملامحه إذا انبعثت المعضلات داخل كل اتجاه وبين الاتجاهات
جميعًا؟ -أسئلة تستحق المتابعة.