غازي دحمان

أن تدعو روسيا مجلس الأمن للانعقاد من أجل مناقشة مذبحة الغوطة، التي تشكل قواتها عنصراً أساسياً فيها، فهذا ليس له معنى سوى الاستهتار بالعقل البشري وبالضحايا الذين تريد روسيا شكواهم إلى مجلس الأمن الدولي!
طبعاً يحق لروسيا فعل ذلك، وهي التي مارست عملية إبادة حلب على الهواء مباشرة وظل العالم صامتاً، وتعرف أن موقفه من مذابحها في الغوطة لن يختلف عن مذبحة حلب. إضافة إلى ذلك، فإن روسيا ترغب في أن يتلهى العالم بعبارات الشجب والإدانة؛ حتى تكمل مليشيات الموت مهمتها في قتل أهل الغوطة وتهجير من بقي منها.
والواقع، هذه ديمقراطية فائضة تحسد عليها روسيا، ذلك أنها ستفتح المجال لخصومها من أجل شتمها على منبر مجلس الأمن وانتقاد وحشيتها. تعرف روسيا ذلك، لكن بالنسبة إليها يكفي أن تقول الكلمة الآتية: «لكنهم يضربون أحياء دمشق بقذائفهم ويستهدفون مناطق الأقليات.. ثم من أوصل الأمور إلى هذه الحالة، أليس تشجيعكم للديمقراطية؟».
لا يشبه وضع الغوطة، سوى مجزرة «سربيرنيتشا» في البوسنة؛ التي كانت الأمم المتحدة قد أعلنتها منطقة آمنة عام 1993، تماماً مثلما أُعلنت الغوطة «منطقة خفض تصعيد». ورغم ذلك، لم تستطع الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن إدخال رغيف خبز ولا حبة دواء لمحاصرين يبلغون مئات الآلاف.. الفارق الوحيد بين مجزرة البوسنة والغوطة أن الأخيرة تحصل في القرن الـ21، بعد أن أقسم قادة العالم على أنهم لن يسمحوا بتكرار مجزرة البوسنة وأشباهها!
في الغوطة، وفي سوريا كلها، لم يعد مهماً كم عدد الأطفال الذين يقتلون ولا النساء المغتصبات، كما ليس مهماً الطريقة والأدوات التي يُقتلون بها؛ بصواريخ الطائرات أو بالكيماوي.. هذه تفاصيل تافهة أمام عظمة الصراع الجيواستراتيجي، بين «حلف المقاومة» وتحالف الشر، والصراع على تعديل تراتبية القوّة في النظام الدولي، وحق روسيا والصين في الحصول على مواقع تقريرية تتناسب وحجم قوّتهم، وتحديداً قوّة روسيا التي تستعرض بمهارة رشاقة طائراتها وفعالية صواريخها.
لكن لماذا العجب؟ سوريا التي يموت اهلها تحت ردم الصواريخ، وغالباً بطونهم ضامرة من الجوع، هذه «السوريا» كنز للفرص التي يمكنها أن ترضي الجميع، ليس جيواستراتيجياً وحسب، بل واقتصادياً، وها هو بشار الأسد، الذي رأى الكثير من الدول تتسابق على شراء السلاح الروسي الذي ثبتت فعاليته في اللحم السوري، يغازل شركات الإعمار العالمية بمنحها فرصاً كبيرة في سوريا، ولا شك في أن أرباحها ستزداد ما دامت المساحات المطلوب إعادة إعمارها أكبر، فلا داعي للبكاء على أهل الغوطة... إنه الإعمار يا غبيّ.
إلى ذلك الحين، ستمنح روسيا العالم فرصة للتنفيس عن غضبه. القضية ليست مكلفة بالنسبة إلى روسيا، حفلة شتائم مقدور عليها، أما الأمم المتحدة فلم تجد غير استعادة عبارات أمينها السابق، بان كي كيمون، للتعامل مع هذه الورطة على لسان أمينها الحالي أنطونيو غوتيريش؛ الذي يشعر بالقلق والحزن أيضاً، فيما اعتبرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن ما يجري في الغوطة يكشف أقبح وجه للإنسانية.
الخيارات التي تتكرم روسيا بوضعها أمام العالم، وبالدرجة الأولى لأهل الغوطة: إما الموت تحت ركام منازلكم، وإما الاستسلام والقبول بالتهجير، كما حصل مع مناطق سابقة. وليس ثمة خيارات أخرى، لا بإدارة مدنية للسكان المحليين لمناطقهم، ولا حتى وعد بحماية عشرات آلاف المطلوبين لنظام الأسد. وكان وزير الخارجية الروسي قد أشار، بلغة تحمل استهتاراً بالعالم وقيمه، إلى أن ما جرى في حلب قابل للتطبيق في الغوطة الشرقية.
ليست حرباً، بل مذبحة بالمعنى الحقيقي؛ تلك التي جرت في الغوطة الشرقية وشاهدها العالم. ولا شك في أن توصيف منظمة العفو الدولية للوضع في الغوطة على أنه جملة من جرائم حرب ترتكب بشكل جماعي، يتناسق وطبيعة الحاصل في تلك البقعة من الأرض، وربما كان البيان الذي أصدرته منظمة اليونيسيف للطفولة، الخالي من الكلمات، هو الأصدق تعبيراً؛ ما دامت اللغة تعجز عن وصف الكارثة بحق الطفولة في الغوطة، وما الداعي للكلام في حضرة الموت الذي يداهم الغوطة كقدر لا قدرة لأحد على رده؟
يستحق أهل الغوطة أن يكرمهم العالم بالتدخل لمنع إبادتهم، فقد أضافوا إلى معنى الإنسانية معاني خلاقة، كالتشبث بالأرض وحفظ الكرامة والقتال من اجل حرية البشر، لكن من أين نأتي لهم بعالم حر يقدّر نضالهم؟}