عبد الفتاح ماضي

ادعى الرئيس الأميركي دونالد ترمب وهو يعلن اعتراف بلاده بالقدس المحتلة عاصمة لدولة «إسرائيل»، أن هذه الأخيرة هي «واحدة من أنجح الديمقراطيات في العالم»، مردداً أكذوبة اعتاد ترديدها الإسرائيليون وبعض السياسيين الغربيين وللأسف بعض العرب أيضاً.
ورغم أن هناك اختلافات بشأن تعريف الديمقراطية ذاتها كنظام للحكم، فإن مقوماتها الرئيسة لا تتوافر في إسرائيل. وهذه المقومات هي أن الشعب هو مصدر السلطة؛ حكم القانون والمساواة أمامه دون تمييز؛ المشاركة السياسية دون إقصاء؛ المواطنة الشاملة وضمان الحقوق والحريات للجميع بلا استثناء.
التمييز على أساس الدين
تعني الديمقراطية أن الشعب هو مصدر السلطة، أي هو الذي يختار حكامه ويراقبهم ويحاسبهم، أما في إسرائيل فاليهود فقط هم مصدر السلطة. فبرغم أن من أقام الدولة لم يكونوا متديّنين، وبرغم أن إقامة دولة لليهود قبل بعث المسيح (اليهود لا يعترفون بعيسى عليه السلام) يخترق تعاليم اليهودية ذاتها، فإن إقامة دولة لليهود في فلسطين لم يكن ممكناً دون استخدام الدين لجلب الهجرات اليهودية وللاستفادة من قيمه ورموزه في عمليات استيعاب المهاجرين والتنشئة الاجتماعية. ولهذا نشأت الدولة يهودية وبإشكالية دائمة بين الدين والدولة.
«رغم أن من أقام الدولة لم يكونوا متدينين، وأن إقامة دولة لليهود قبل بعث المسيح يخترق تعاليم اليهودية ذاتها، فإن إقامة دولة لليهود في فلسطين لم يكن ممكناً دون استخدام الدين لجلب الهجرات اليهودية وللاستفادة من قيمه ورموزه في عمليات استيعاب المهاجرين والتنشئة الاجتماعية»، وقامت الدولة الإسرائيلية بلا حدود جغرافية لممارسة السلطة في إطارها، وهذا يتعارض مع ما يُجمع عليه فقهاء القانون والسياسة من أن سيادة الدولة ترتبط بإقليم محدد.
تقوم الديمقراطية على حكم القانون والمساواة أمامه، بينما قامت إسرائيل على فكرة عنصرية إقصائية (الصهيونية) تتناقض مع أسس الدولة الحديثة التي تقوم على قبول الآخر والتعايش معه والتساوي معه أمام القانون، وتتناقض أيضاً مع فكرة العلمانية التي استفادت منها الصهيونية لتحرير الجماعات اليهودية في أوروبا تحديداً بعد قرون من التمييز والاضطهاد في المجتمعات المسيحية في العصور الوسطى.
واقتضت يهودية الدولة إصدار قوانين تُميّز ضد كل من هو غير يهودي، بدأت بقانونين عنصريّين لا مثيل لهما في العالم، هما العودة (1950) والجنسية (1951)، وهما يسمحان لأي يهودي في العالم بالهجرة إلى إسرائيل والحصول على جنسيتها، بينما يمنعان أصحاب الأرض من العودة ومن حقوق الجنسية والمواطنة. ثم صدرت بعد ذلك عشرات القوانين التي تميز على أساس الدين ضد العرب الفلسطينيين (1.8 مليون في فلسطين التي احتلت عام 1948 و3.8 ملايين في الضفة الغربية وغزة المحتلتين عام 1967)، وذلك كما سنعرض لاحقاً.
ويرتبط حكم القانون بوجود دستور يتساوى أمامه الجميع، إلا أن إسرائيل ليس لها دستور مكتوب، ليس تشبهاً ببريطانيا كما يفهم البعض، بل لأن هناك مشكلات وتناقضات كبرى فشل الصهاينة في حلها، كالطبيعة العنصرية والتوسعية للصهيونية، وتحديد من هو اليهودي، وحدود الدولة، ووضع الحريات والحقوق في دولة يُراد لها أن تكون لليهود فقط.
مواطنون من الدرجة الثانية
تقتضي الديمقراطية ضمان المشاركة السياسية لكل البالغين دون تمييز أو إقصاء، بينما في إسرائيل يحول دون ذلك الكثير من القيود التي تضعها القوانين والممارسات الفعلية. فعلى الرغم من أن عرب 1948 يحملون الجنسية الإسرائيلية ولهم بعض الحقوق، فإنهم يشكلون مواطنين من الدرجة الثانية، ويعانون من التمييز في كافة المجالات تقريباً. وهناك قيود على حرية التعبير والتنظيم والترشح في الانتخابات وتشكيل الأحزاب والجمعيات، وهناك قوانين عدة تربط بين الاعتراف بيهودية الدولة وبين الترشح للانتخابات أو الاستفادة من الدعم الحكومي أو التمتع بحقوق المواطنة. وقد أرست المحكمة الدستورية العليا «يهودية الدولة» كحقيقة دستورية رئيسة لا يمكن أي قانون مخالفتها.
وهناك تناقضات أخرى من الناحية المؤسسية، فالكنيست لا يخلو من مشاهد تخالف الديمقراطية، مثل قانون العدد الذي يمنع عملياً وصول ممثلي الأحزاب العربية للجان الرئيسة، كلجنة المالية ولجنة الشؤون الخارجية والأمن.
أما الأحزاب الرئيسة فنشأت قبل قيام الدولة، وتتفق على ما يسمى «الإجماع الصهيوني» أي أمن الدولة ورفاهيتها استناداً إلى جوهرها الصهيوني، العنصري والإقصائي المشار له سابقاً. وهذه الأحزاب تتسم بمركزية القيادة، وسيطرة العنصر اليهودي الغربي على نخبها، كذلك فإنها تتلقى دعماً مالياً ومعنوياً من الخارج.
وهناك قوى أخرى تلعب أدواراً مؤثرة في الحياة السياسية. فالجيش نشأ في الأساس كعصابات مسلحة إرهابية، لتتحول هذه العصابات بعد إقامة الدولة إلى جيش سُمي «جيش الدفاع». ويلعب الجيش دوراً محورياً في السياسة نظراً لأن الدولة دولة احتلال قامت بقوة السلاح، وتتبنى التوسع كهدف دائم لها، وتخصص نسبة عالية من ميزانيتها للأمن وقمع المقاومة، هذا بجانب أن الجيش يسيطر على معظم منظمات الشباب، ويخرج منه معظم الكوادر بالدولة والأحزاب.
الديمقراطية تعني حق الجميع في التمتع بالمواطنة وفي الحقوق والحريات دون تمييز أو إقصاء. أما في إسرائيل، فهناك مواطنون من الدرجة الأولى هم اليهود وهناك مواطنون من الدرجة الثانية هم العرب. وداخل الفئة الأولى هناك تمييز لمصلحة اليهود الإشكناز القادمين من أوروبا على حساب اليهود الشرقيين والفلاشا.
وتداعيات هذه الأوضاع كثيرة نشير لبعضها، ففكرة يهودية الدولة تعني الإلغاء الكامل لحقوق فلسطينيي 1948، وتمهيد الأرض لحل الترانفسير، أي طرد كل الفلسطينيين من مسيحيين ومسلمين، بجانب إنهاء حق العودة نهائياً وإلغاء مكانة اللغة العربية كلغة رسمية، وغير ذلك.
أما العرب الخاضعون للاحتلال بعد حرب 1967 فهم يعانون من الحكم العسكري الذي يحرمهم كافة حقوقهم، ويقمعهم عسكرياً ويحاصرهم اقتصادياً، في اختراق تام لاتفاقيات جنيف وعشرات القرارات ذات الصلة الصادرة عن الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى.
فكيف تكون الدولة ديمقراطية مع كل هذه التناقضات؟ وكيف يمكن وصف دولة الاحتلال الوحيدة في العالم بالديمقراطية التي تعني في جوهرها حق الشعب في تقرير مصيره وحكم نفسه بنفسه؟
النشأة الاستعمارية
الديمقراطية لا تقوم على الدماء والإقصاء، وهنا لا يمكن أن نصف دولة ما بأنها ديمقراطية ونتجاهل كيفية نشأتها. إن الحركة الصهيونية -التي أنشأت إسرائيل- مشروع استعماري أقامه وموّله مستعمرون أوروبيون بدعم غربي. ولهذا كان طبيعياً أن تلد الصهيونية دولة إقليمها الجغرافي اغتُصب من أهله بعد عمليات قتل وإرهاب، وعنصرها البشري جُلب من أوروبا ثم من العالمين العربي والإسلامي، دون أن يتسم بالتجانس أو أن يجمعه تاريخ مشترك أو لغة واحدة.
هذه النشأة ليست من التاريخ، ولا يمكن تجاهلها ونحن نصنف النظام السياسي بأنه ديمقراطي أو غير ديمقراطي؛ لسببين يرتبطان بالوضع الحالي والمستقبلي.
الأول هو أن الصهيونية ما زالت قائمة وتمثل الإيديولوجية الرسمية للدولة، وهي إيديولوجية عنصرية وتوسعية لأنها تقوم على إنكار أي حق لأي شعب آخر في فلسطين عدا ما تسميه الصهيونية زوراً «الشعب اليهودي»، وما يترتب عن هذا من مجازر وتدمير وحروب.
والسبب الثاني هو أن الشعب الفلسطيني لا يزال موجوداً، مقاوماً ورافضاً وخاضعاً للقمع والتمييز على أساس الدين، سواء داخل فلسطين التي احتلت عام 1948 أو في الضفة وغزة المحتلتين عام 1967، هذا بجانب تمتع هذا الشعب بحاضنة عربية وإسلامية قوية، بجانب دعم الشعوب الحرة الأخرى أيضاً.
نعم اتفق قادة إسرائيل بمجرد قيامها على إدارة خلافاتهم بطرق ديمقراطية وسلمية لاعتبارين أساسيين: الأول الطبيعة المتنوعة لسكان الدولة الوليدة، فالصهيونية جمعت في فلسطين جماعات يهودية مختلفة في كل شيء (العرق واللغة والتاريخ والعادات بل والمذهب الديني أيضاً). أما السبب الثاني فهو حرص هؤلاء القادة على الاتساق مع ما هو سائد في الدول الغربية الداعمة لهم في المقاوم الأول.
لكن هذه الممارسات الديمقراطية المحدودة لم تمنع من وجود خلاف بين باحثي الديمقراطية ونظم الحكم حول تصنيف نظام الحكم في إسرائيل، فهناك كتاب إسرائيليون وغربيون لا يصفون إسرائيل بالديمقراطية، وهناك من يرونها «ديمقراطية إثنية» لليهود فقط ما دام التمييز ضد العرب قائماً.
أما المقاييس الغربية للديمقراطية فهي غير دقيقة في بعض الحالات. وفي حالة إسرائيل يتم تجاهل كل التناقضات السابقة، فمنظمة بيت الحرية (Freedom House) التي دأبت على إعطاء إسرائيل المعدل الأعلى (1)، اعتادت أيضاً وصف جنوب أفريقيا تحت نظام الابارتهيد العنصري بالنظام الديمقراطي بينما كان يجري إقصاء نحو 70% من السكان هم الأفارقة السود أهل البلاد الأصليين.
أخيراً، إن ما أقامه المستعمرون اليهود هو دولة احتلال عنصري، وهي ككل الكيانات الاستعمارية لا تعيش إلا بواجهات وروايات مزيفة، والنضال ضد هذه الواجهات والروايات ركن أصيل من واجب مقاومة الاحتلال والعمل على إزالته.}