وائل نجم - كاتب وباحث

نتائج الانتخابات البلدية في مدينة طرابلس جاءت صادمة ومفاجئة ومن العيار الثقيل بكل المعايير، ولم يكن أحد على الإطلاق يتوقع مثل هذه النتائج، حتى الذين وقفوا خلف اللائحة التي نافست لائحة التوافق. وسرّ صدمتها أو المفاجأة التي حملتها يكمن في فوز اللائحة المدعومة من وزير العدل المستقيل من الحكومة، أشرف ريفي، «لائحة قرار طرابلس»، على اللائحة الأخرى المنافسة «لطرابلس» التي كانت تحمل صفة التوافق بين القوى السياسية الرئيسة في المدينة وفي لبنان، وقد جمعت إلى تفاهم الرئيسين السابقين للحكومة، نجيب ميقاتي وسعد الحريري، الوزير محمد الصفدي، والنواب محمد كبارة، سمير الجسر، وفيصل كرامي، فضلاً عن قوى سياسية إسلامية كالجماعة الإسلامية وغيرها، ومع كل ذلك تمكّنت «لائحة قرار طرابلس» المدعومة من الوزير ريفي من تحقيق فوز كبير، إذ فاز من اللائحة وفق النتائج الرسمية 16 عضواً من أصل 24 عضواً، فيما فازت لائحة القوى المتحالفة بـ 8 أعضاء فقط، وقد شكّل هذا الفوز صدمة كبيرة في الوسط السياسي اللبناني عموماً، والطرابلسي والسنّي خصوصاً، وجاء بمثابة «تسونامي» أطاح كل المفاهيم التي كانت تنظر إلى الطبقة السياسية على أنها «قدر» لا يمكن الخروج عن إرادته.
لقد أظهر الفوز المفاجئ للوزير أشرف ريفي في انتخابات طرابلس تغيّراً وتبدّلاً كبيراً في المزاج الطرابلسي، وفي المزاج السنّي عموماً في لبنان، وكرّسه زعامة لا يمكن القفز فوقها،  ودقّ جرس الانذار، ليس للقادة السنّة التقليديين فقط، بل أيضاً لكل القيادة اللبنانية في مختلف مواقعها.
وأما عن الأسباب التي جعلت هذا «التسونامي» يحدث في فيحاء الشمال، ويحدث هذه الضجّة والضوضاء على كثير من المستويات، فهي كثيرة وعديدة ولا تنحصر بسبب واحد مباشر أو غير مباشر.
فالمعروف أن الوزير ريفي استقال من الحكومة التي يرأسها تمام سلام على اعتبار أنها تخضع لسياسات وهيمنة «حزب الله» في الداخل والخارج، ولا تستطيع النهوض بالدولة والمؤسسات في ظل هذه الهيمنة، فضلاً عن سياسة الكيل بمكيالين تجاه المواطنين اللبنانيين من قبل هذه الحكومة، وهو شعور يكبر عند أكثرية اللبنانيين، خاصة بعد تجاوز «حزب الله» للحدود والذهاب للقتال في سوريا إلى جانب النظام السوري، أو في ملف السلاح المتفلت في الداخل، الذي تتمتّع بحمله واقتنائه مجموعة أو فئة من اللبنانيين تحت مسمّى المقاومة، فيما يلاحق آخرون على أقل تهمة تحت عنوان محاربة «الإرهاب»، ولعلّ أبرز مثال على ذلك هو ملف الموقوفين الاسلاميين الذين يعانون دون محاكمات منذ عدة سنوات، وأكثرهم من الشمال، ومن المسلمين السنّة تحديداً، وقد ولّد هذا الشعور على خلفية الاشياء المذكورة شعوراً بالغبن والقهر والاستضعاف والاستهداف، وزاد من حجم الهواجس المتولّدة عند كثير من اللبنانيين، وهو ما شكّل سبباً رئيسياً في تغيّر المزاج الطرابلسي، ودفعه إلى التعبير عن كل ما يختلج صدره في صناديق الاقتراع.
القضية الأخرى التي وجدت ترجمتها في صناديق الاقتراع في مدينة طرابلس هي في حالة الاحباط السنّي العام جراء السياسات والتنازلات التي قدّمها ويقدّمها قادة «السنّة» في لبنان إلى الأطراف الأخرى. وفي هذا السياق يبرز الحوار الثنائي الذي يشارك فيه «تيار المستقبل» و«حزب الله» تحت عنوان تخفيف التوتر الطائفي والمذهبي في لبنان، وهو يخدم بالدرجة الأولى بحسب فهم الاوساط الشعبية «حزب الله» فقط، بينما يقوم «حزب الله» بالمجاهرة بالقتال في كل من سوريا والعراق واليمن، ضارباً عرض الحائط بهذا الحوار الذي لم يفضِ بعد إلى شيء حتى اليوم. كذلك هناك «الحوار الوطني» العام الذي يقدّم فيه القادة «السنّة» التنازلات تلو التنازلات للقيادات الأخرى تحت عنوان الحفاظ على الدولة ومؤسساتها، فيما يرى الشارع السنّي العام أن هذه التنازلات تمكّن الأطراف الأخرى من البلد، وتزيد من حجم «المظلومية» التي يعيشها السنّة في لبنان، وهنا يبرز حجم التنازل في ملف رئاسة الجمهورية حيث رشّح «تيار المستقبل» ابتداءً، سمير جعجع، وهو أبرز حليف مسيحي في قوى 14 آذار لهذا التيار لموقع رئيس الجمهورية، ثم عاد وتراجع عن هذه الترشيح لترشيح النائب سليمان فرنجية، وهو حليف للنظام السوري ولحزب الله، ويجري الحديث الآن عن تراجع آخر بترشيح العماد ميشال عون للرئاسة، وهو ما رأى فيه الشارع السنّي العام تراجعاً، بل ربما انهياراً يمكن أن يجعل السنّة يخسرون موقعهم القوي في البلد، وهو أيضاً ما جعلهم يفقدون الثقة بالقيادة السياسية التي تقف على رأس الطائفة، وهي بالمناسبة ليست قيادة فردية واحدة.
إضافة إلى هذه وتلك، يبرز في طرابلس الحديث عن فشل المجلس البلدي السابق جراء المحاصصة التي قام عليها، ويذكر الطرابلسيون كيف أفشل الرئيس السابق للبلدية نادر غزال، وأقيل بطريقة الضغط جراء الخلافات السياسية بين القوى التي تهيمن على المجلس البلدي، وقد دفع المواطن الطرابلسي الثمن في ذلك، ومن هنا جاء رد فعله على ما اعتبره محاصصة جديدة بين القوى التي تحالفت في لائحة التوافق.
لقد وجد الشارع الطرابلسي في الانتخابات البلدية، وفي مواقف وتصريحات الوزير أشرف ريفي فرصة للتعبير عن رفضهم للطبقة السياسية التي تتحكم بقرارهم، وتتنازل عن مكاسبهم، وتورثهم حالة الاحباط والترهّل، وجاءت النتائج صادمة وغير متوقعة، إذ إن معظم التوقعات كانت تشير إلى خرق تحققه لائحة ريفي بعدد محدود من المقاعد على حساب لائحة القوى السياسية، ولكن رغم الدعم السياسي والانفاق المالي، جاءت النتائج بمثابة «تسونامي» عبّر بوضوح عن المزاج السنّي العام في طرابلس ولاقى صدى إيجابياً في كل لبنان، وهو ما يجب أن يُقرأ بوضوح بالنسبة إلى القوى السياسية والقيادات في الساحة الإسلامية السنّية أولاً، وبالنسبة إلى القيادات في الساحة الوطنية عموماً ثانياً، وما يجب أن تفكّر فيه الدول الشقيقة المعنية بالوضع اللبناني بشكل كبير، وإلا فإن التعبير بهذا الشكل هذه المرة قد يتحوّل إلى تعبير بشكل مختلف إذا ظلّت الأمور على حالها من الاحباط، وإذا لم تتغيّر إلى حالة  يشعر معها المكوّنات اللبنانية بالراحة والاستقرار والعدالة وسيادة مبدأ الدولة والقانون على الجميع دون استنسابية أو كيل بمكيالين أو شعور بالغبن والقهر.