العدد 1361 / 8-5-2019
أيمن حجازي

معضلة خفض العجز في موازنة عام 2019 أربكت القوى السياسية الكبرى في البلد ، خصوصا أمام قواعدها الإنتخابية والجماهيرية التي أمنت لها في مراحل سابقة خدمات شتى ذات طابع طائفي أو مذهبي أو قطاعي , وبتنا نعاين بأم العين ثلاثة من هذه القوى تعاني مع قواعدها الجماهيرية أو النخبوية كي لا تأتي إجراءات خفض العجز على حسابها ، ألا وهي التيار الوطني الحر وتيار المستقبل وحركة أمل . دون أن يعني ذلك أن باقي القوى الرئيسية ستكون بمنأى عن إنعكاسات تلك الإجراءات المفترضة . ولا يخفى على أحد أن ذلك الخفض بات إلتزاما من الدولة اللبنانية عموما ومن الرئيس سعد الحريري خصوصا أمام الدول المانحة في مؤتمر سيدر وأمام المؤسسات المالية الدولية التي دأبت على النصح بضرورة إتخاذ إجراءات شتى لتحقيق خفض العجز في الموازنة العامة .

على صعيد التيار الوطني الحر الذي يشكل العسكريون السابقون جزءاً هاما من قاعدته الحزبية والجماهيرية ، فانه لجأ الى اعتماد سياسة الهروب الى الأمام في ما يتعلق بالتأثيرات السلبية للموازنة على تعويضات العسكريين المتقاعدين من خلال حركة وزير الدفاع الياس أبو صعب في الجنوب وفي جرود عرسال وعبر التعاطف مع تحركات العسكريين المتقاعدين في الشارع . ما يعني أن المسؤولية في حدوث هذه التأثيرات السلبية تقع على رئيس الحكومة سعد الحريري وعلى وزير المال علي حسن خليل وعلى باقي أطراف الحكومة بمن فيهم حزب " القوات اللبنانية " المنافس اللدود للتيار الوطني الحر في الساحة المسيحية . والمعروف أن تيار المستقبل والرئيس فؤاد السنيورة ، والحزب التقدمي الاشتراكي وزعيمه وليد جنبلاط كانوا يكررون الحديث عن إمتيازات مالية باهظة الثمن يتمتع بها العاملون في السلكين العسكري والأمني اللبناني . ما يعتبر مبررا كافيا لتوجيه أصبع الإتهام الى هؤلاء في عملية المساس بحقوق العسكريين وتعويضاتهم .

من جانب تيار المستقبل فان مناصريه الكثر الذين تم " تكديسهم " منذ تسعينات القرن الماضي في الإدارة اللبنانية و في أوجيرو على سبيل المثال لا الحصر ، باتوا غاضبين من الحملات التي تستهدف الرواتب التي يتقاضاها مدراء هذه المؤسسسة وغيرها من الإدارات التي تم الإمساك بها من قبل تيار المستقبل في ربع القرن الأخير بالشراكة مع حركة أمل وغيرها من القوى السياسية النافذة . وهذا ما قاد موظفي أوجيرو وموظفي مصرف لبنان الى الإضراب والإعتصام دفاعا عن الإمتيازات الوظيفية التي نالها كبار الموظفين في هذه الإدارات ... وقد نال النذر القليل من هذه الإمتيازات الطبقات الدنيا من الهرم الوظيفي , ونحن هنا نتحدث عن "إمتيازات" عندما نجري مقارنة مع باقي ما هو ممنوح للعاملين في باقي اطراف الإدارة اللبنانية , وإلا فان هذه " الإمتيازات " التي طالت الطبقة الدنيا من الهرم الوظيفي في هذه المؤسسات هي حقوق طبيعية ملزمة ومتوافرة في البنية الإدارية للمجتمعات الأخرى التي تصان فيها الحقوق .

أما حركة أمل التي يتوزع إنتشارها ونفوذها داخل الإدارة اللبنانية على مساحة واسعة ، فانها قد تضررت وخصوصا في قطاع العمل النقابي التربوي من جراء وجود الوزير علي حسن خليل على رأس وزارة المالية المولجة بإعداد الموازنة . وهذا ما لم تألفه حركة أمل التي كانت تلعب على الدوام دور المطالب بالحقوق وليس دور الحاكم الذي يعمل على تقليص حقوق الموظفين العاملين في الإدارة العامة . ولكنه الثمن المطلوب دفعه للتوفيق بين السعي لإستلام حقيبة حكومية سيادية كحقيبة المالية وبين العمل الدائم لتأمين خدمات وظيفية دائمة للقواعد الجماهيرية الطامحة الى الحصول على مزيد من الحقوق والعطاءات خصوصا في ظل الأزمات الإقتصادية المتفاقمة . وكذلك الأمر بالنسبة الى الثمن المطلوب دفعه من قبل التيار الوطني الحر للتوفيق بين دور الحزب الحاكم ودور المدافع عن الطبقات المسحوقة والجماهير الغفورة .

أما باقي القوى السياسية الكبرى المشاركة في الحكومة فانها تبدو منشغلة بقضايا أخرى الى جانب إنشغالها بهموم الموازنة وخفض عجزها ، حيث نلاحظ أن حزب " القوات اللبنانية " يعمل على إزالة الآثار السلبية للحملة التي شنت ضده في الساحة المسيحية متهمة إياه بالتواطؤ على إبقاء النازحين السوريين في لبنان ما يمكن أن يسبب له أضرارا سياسية مختلفة ... وينهمك الحزب التقدمي الإشتراكي في إستجماع الأدلة التاريخية الدالة على عدم لبنانية مزارع شبعا في سياق حملة اتهم بشنها بغية التناغم مع الجهود الغربية المبذولة لمحاصرة حزب الله في لبنان وإيران في المنطقة . هذا في حين يبدو حزب الله مرتاحا لإستمرار الموقف الرسمي اللبناني على إلتزامه الرسمي حق الشعب اللبناني في مقاومة الإحتلال الصهيوني .

إنه خفض العجز في الموازنة الذي يشكل هدفا آنيا لحكومة العهد الأولى بعيدا عن الأهداف الآنية والبعيدة المدى لفقراء الوطن المنتشرين على إمتداد الجغرافيا اللبنانية ... الذين يطمحون الى عيش كريم ولقمة هنية وكرامة موفورة ومدارس وجامعات ومستشفيات ومؤسسات علمية أكثر وسجون أقل .