د. محمد شبيب

قال تعالى: >سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجدِ الأقصى الذي باركنا حولَه لنريَه من آياتنا إنه هو السميع البصير< سورة الإسراء-1.
في هذه الرحلة الربانية أراد الباري تبارك وتعالى أن يبيّن لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بعضاً من آياته التي يستعين بها على متابعة مسيرة الدعوة، حتى يُتمَّ الله نوره و تتحررالبشرية من ظلمات الشرك والكفر.
ويأتي في طليعة هذه الآيات:
المسجد الحرام في العقيدة الإسلامية
 هو أول بيت أمر الله بتشييده في الأرض ليكون مركز عبادة الله وتوحيده، قال تعالى: >إنَّ أولَ بيتُ وُضعَ للناس للذي ببكةَ مباركاً وهدى للعالمين، فيه آيات بيّنات مقامُ إبراهيم ومن دخله كان آمنا...< آل عمران -96. ثم جاء إبراهيم عليه السلام كي يجدد بناء البيت مع ابنه اسماعيل >وإذ يرفعُ إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ وإسماعيل ربنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم < البقرة -127، ثم شاء الله تعالى أن يكون هذا البيت منطلقاً للدعوة الخاتمة وقبلة للأمة الإسلامية الى ان يرث الله الارض ومن عليها >قد نرى تقلَّبَ وجهك في السماء فلنولينك قبلةً ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره...< البقرة -144، وبعد أكثرَ من عشرين سنة من الجهاد ضد الزعامة العربية في مكة دخل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى البيت العتيق ليحرّره من دنَس الأصنام التي كانت تحيط به، وبعد ذلك يقف بلال الحبشي على ظهر الكعبة ليرسل نداء التوحيد الذي سيبقى طارقاً في أذن الزمن الى ما شاء رب العالمين، وتعظيماً لهذا البيت واتباعاً لسنّة إبراهيم عليه السلام فرض الله زيارته على المسلم المستطيع مرة في العمر، قال تعالى: >..ولله على الناسِ حِجّ البتِ من استطاع إليه سبيلا، ومن كفرَ فإن الله غنيّ عن العالمين< المائدة -21 .
المسجد الاقصى
 يحتل مرتبة عالية في العقيدة الإسلامية لأن أرضه مقدّسة، قال تعالى: >يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين< المائدة -21. وأرض الأقصى مباركة أيضاً، قال تعالى: >ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين<. من هنا ندرك منزلة الاقصى في حياة الأمة، ولذلك فإن الإسراء يهدف في البداية الى ربط المسجد الأقصى بالمسجد الحرام لأن رسالتهما واحدة وحمايتهما هي مهمة الأمة بكاملها، من هنا ندرك لماذا انطلق الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة بعد تحرير المسجد الحرام كي يحرّر المسجد الأقصى الذي كان يخضع للغطرسة الرومانية. ومن أجل هذا الهدف كانت معركة مؤتة وغزوة تبوك وجيش أسامة كي يمهّد الطريق للأجيال القادمة ضمن استراتيجية واضحة تخلص الى تحرير الشام عامة والأقصى خاصة. وما إن تولى أبو بكر الصدّيق أمر الخلافة حتى بدأت الجيوش الإسلامية تتوجه نحو بلاد الشام، حاملة راية الهداية والحرية للشعوب المظلومة، ثم كانت معركة اليرموك التي أسقط فيها المسلمون الامبراطورية الرومانية في سورية، وبعدها فرّ هرقل من دمشق الى انطاكية. في هذه الأثناء كان عمر بن الخطاب يتوجه الى القدس بناء على طلب البطريرك صفرينيوس ليسلّمه مفاتيح المدينة المقدسة، وهكذا ارتفع نداء التوحيد فوق مآذن الأقصى لأول مرة في التاريخ.
لقد أدهش عمر العالم عندما أكرم نصارى القدس ثم أعطاهم الحرية الكاملة في ممارسة طقوسهم الدينية وأعلن الحماية لكنائسهم وممتلكاتهم في البرّ والبحر. لقد بقي الأقصى ينعم بالأمن والسلام طيلة خمسة قرون متواصلة، حتى انقسم العالم الإسلامي على نفسه، ثم صارت الخلافة العباسية في بغداد تواجه تحديات الدولة الفاطمية في مصر.
في أجواء هذا الصراع دخل الصليبيون الى بلادنا واحتلوا المنطقة الممتدة من انطاكية مروراً بالساحل الشامي الى المنصورة في مصر، ثم أقاموا إماراتهم في الرها وانطاكية وطرابلس وعكا والقدس والكرك من أجل تمزيق العالم الإسلامي ونهب خيراته وثرواته.
بقيت القدس تنتظر حوالي تسعين سنة حتى ظهر صلاح الدين الأيوبي، الذي جمع كلمة الأمة في الشرق والغرب ثم واجه الصليبيين في حطين سنة 583هـ وحرّر القدس، وعاد علم التوحيد فوق مآذن الأقصى حتى نهاية الحرب العالمية الأولى حين استولت بريطانيا على فلسطين والعراق، وبدأت تمهّد لقيام دولة إسرائيل التي احتلت فلسطين عام 1948م وفي سنة 1967م صار الأقصى أسيراً.
سيبقى الاقصى رمزاً لعزة الأمة وكرامتها.. واليوم الأمة كلها في الأسر مادام الاقصى يعاني من الذل والاحتلال.