العدد 1679 /3-9-2025

 الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين مبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين.

في شهر ربيع الأول، وفي يوم الاثنين الثاني عشر منه، لم تكن الأرض على موعد مع ميلاد رجل عظيم فحسب، بل كانت على موعد مع ميلاد أمة بأكملها، أمةٌ كُتب لها أن تُغيّر وجه التاريخ. في ذلك اليوم، وفي قلب جزيرة العرب التي كانت تموج بالظلمات، أشرق نورٌ إلهي بدَّد عتمة الجاهلية، كانت الجزيرة حينها مسرحًا للفُرقة والشتات؛ قبائل متناحرة تمزقها العصبية، وتستعبدها الأصنام، وتغرق في بحر من الثارات والأحقاد.

     كان الإنسان فيها لا يرى أبعد من حدود قبيلته، ولا يسمع إلا صدى نسبه، فجاء ميلاده صلى الله عليه وسلم كالغيث الذي يحيي الأرض الميتة، وكالفجر الذي يبدد ليلًا طويلًا، قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ (آل عمران: 164).

      لقد كانت ولادته المباركة إيذانًا ببدء عهد جديد، عهد تُبنى فيه النفوس قبل أن تُبنى القصور. جاء ليضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وليحرر العقول من عبادة الحجر والبشر، ويوجهها لعبادة رب البشر؛ فجمع الله به تلك القلوب المتنافرة على كلمة التوحيد، وصهر تلك الإرادات المشتتة في بوتقة الأُخوَّة الإيمانية؛ فصاروا بنعمة الله إخوانًا، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ (آل عمران: 103). وبهذا التأليف الرباني، وبهذه الأُخوَّة الصادقة، بنى صلى الله عليه وسلم دولة الحق والعدل، دولة لم تقم على عصبية دم أو تراب، بل على أساس متين من العقيدة والتقوى، دولة قوية فتية، نشرت العدل والرحمة في ربوع الجزيرة، وجابهت إمبراطوريات الطغيان والظلم، وحملت مشعل الهداية إلى العالمين.

ولكن ما أبعد اليوم عن الأمس! لقد ضيعت الأمة بوصلتها يوم أن تخلت عن ميراث نبيها؛ تلك الوحدة التي كانت سر قوتها، وذلك الإيمان الذي كان وقود عزتها، تبددت في غفلة منها؛ فضعفت الأمة وتشرذمت، وعادت إلى التفرق البغيض والتحزُّب المريب، والولاء لغير الله ورسوله؛ فتكالب عليها أعداؤها كما تتكالب الأَكَلَة على قصعتها؛ مصداقًا لقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

 إن ما نشهده اليوم في غزة لهو أصدق تعبير عن هذا الوهن وذلك التيه، من قتل للأطفال والنساء والشيوخ وتجويع الناس في مشهد مخزٍ، دون أن تجد من أمة المليارين إلا صمتًا أو بيانات باهتة.

إن خذلان غزة ليس مجرد موقف سياسي عابر، بل هو مرآة تعكس عمق الهُوَّة التي سقط فيها الكثيرون، وهو شهادة على موت الضمير، وغياب النخوة لديهم، وانقطاع حبل الأُخوَّة الذي أمرنا الله بالاعتصام به؛ إذ كيف يمكن لأمة تحتفي بميلاد نبي الرحمة أن تشاهد إبادة جزء من جسدها دون أن يرفَّ لها جفن؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" رواه مسلم. فما أبعد الكثير منا عن هذا المعنى اليوم!

     إن الاحتفال الحقيقي بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون بالكلمات والطقوس، بل بالعودة الصادقة إلى منهجه، منهج الوحدة والقوة، والعزة والكرامة، ونصرة المظلوم ومجابهة الظالم؛ فلتكن هذه الذكرى المباركة نداءً يوقظ الغافلين من سباتهم، وصرخة حق تعيدنا إلى رشدنا؛ لنجدد العهد على السير على خطاه، واستلهام سيرته في بناء أمة عزيزة قوية، تليق بأن تكون {خير أمة أخرجت للناس}.