العدد 1447 /3-2-2021

د. وائل نجم

ليالي المواجهات الدامية التي شهدتها مدينة طرابلس الأسبوع الماضي كادت أن تحرق المدينة مع إحراق مبنى البلدية والمحكمة الشرعية، ومحاولة إحراق سراي المدينة، هذا فضلاً عن محاولات اقتحام مراكز علمية وثقافية عامة وخاصة في المدينة، ناهيك عن محاولة اقتحام منازل النوّاب، بغض النظر عن مدى تحمّلهم للمسؤولية الملقاة على عاتقهم. طرابلس في تلك الليالي نجت من قطوع صعب كان يمكن أن يشعل البلد كلّها فيما لو كان الحريق الذي التهم مبنى البلدية والمحكمة امتد ليحرق كل المدينة. كان تجاوز ذاك القطوع بفضل وعي أهل المدينة وقياداتها وقواها واكتشافهم لحجم المؤامرة التي تستهدف مدينتهم وتريد أن تحرقها أو على أقلّ تقدير تظهرها مشاغبة، متمردة، منفصلة عن البلد وسائر المناطق والمدن وكأنّها في كوكب آخر ليسهل بعد ذلك ضربها أو حرقها أو النيل منها. لكن تجاوز القطوع لا يكفي، بل لا بدّ من السؤال عن الذي يتحمّل مسؤولية ما جرى؟ أو ربما يقف خلفه تخطيطاً وتنظيماً وتمويلاً وما إلى ذلك، "فما كلّ مرّة تسلم الجرّة" على ما يقول المثل، خاصة وأنّ نوايا خبيثة باتت ملحوظة تريد أن تنال من هذه الحاضرة الصامدة التي ما تزال تقارع المشاريع المشبوهة التي تريد النيل، ليس من لبنان فحسب، بل من كل المنطقة العربية الاسلامية.

اليوم السؤال الأساسي بعدما تجاوزت طرابلس هذا القطوع الصعب والخطير، من المسؤول؟ من الذي يتحمّل المسؤولية؟ السياسيون؟ الأمنيون؟ العسكريون؟ الإداريون؟ الرؤساء؟ الوزراء؟ النوّاب؟ الداخل؟ الخارج؟ الأهالي؟ من؟

لنبدأ الإجابة عن الاحتمال الأخير. الأهالي. هؤلاء هي مدينتهم، لا يمكن أن يحرقوها، ولا يدمّروا مؤسساتها. ومن حقّهم الكامل أن يعبّروا في حركة احتجاج سلمية - لطالما قاموا بها – عن حجم المأساة التي يعيشونها، عن حجم الفقر الذي يلف ميدنتهم ويكوي بناره عشرات بل مئات العائلات التي باتت منكوبة جراء سياسات خاطئة من طبقة سياسية فاسدة لا همّ لها سوى التمسّك بالسلطة والاستئثار بالمقدرات. الطرابلسيون لا يمكن أن يحرقوا مدينتهم، ولا أن يعتدوا على مؤسساتهم ولا أن يختاروا بديلاً عن الدولة. ولذلك فهم غير مسؤولين عن الأحداث التي جرت، لا سيما أعمال الحرق والتخريب والتدمير، حتى ولو كان بعض المتورطين في هذا العمل المدان من أبناء المدينة. ربما يكون من المغرر بهم، أو من الذين أشكل عليه الأمر فاندفع في لحظة تخلٍّ وأُسقط به في هذا الفخ اللئيم، فخ حرق وتدمير المدينة.

هل هم الإداريون والأمنيون والعسكريون؟ هؤلاء أيضاً وإن كانوا يتحمّلون شيئاً من المسؤولية على اعتبار أنّهم في مواقع قرار. لكّنهم في النهاية ينفّذون أوامر وتعليمات تأيتهم ويتحركون من خلالها. هؤلاء لا يقلّ حرصهم على المدينة من أبناء المدينة ذاتها. لأنّهم ببساطة هم من أبناء المدينة أو من أبناء الجوار الجغرافي لها الذي يُعدّ ويُعتبر امتداداً طبيعياً لها.

هل هم السياسيون والرؤساء في سدّة المسؤولية؟ نعم هؤلاء يتحملون جزءاً كبيراً من المسؤولية لأنّهم يصنعون القرارات، ويصدّرون الأوامر، ويرسمون المخططات والتوجيهات. لأنّهم المسؤولون عن الأزمة السياسية التي تمنع تشكيل الحكومة لأنهم يريدون الاستئثار بالسلطة والحكم ولو على حساب لقمة عيش اللبنانيين أو حتى على جماجمهم. هؤلاء مسؤوليتهم أكبر من مسؤولية الإداريين والعسكريين والأمنيين. ومع ذلك أقول ربما يكون – حتى هؤلاء – ضحية تدخّل خارجي ومخططات خارجية كبيرة تريد لهذه المدينة أن تسقط في أفخاخ تسمح بالقضاء عليها كجزء من المشاريع التي فعلت فعلها من قبل في مدن أخرى.

من الواضح أنّ ما جرى في طرابلس تداخلت فيها أمور عديدة وتقاطعت عنده مصالح شتى سمحت بما جرى ليكون لكل شريك نصيب من غنيمة نتائج ما جرى.

ما تحتاجه طرابلس اليوم العمل الحثيث والدؤوب أولاً على كشف الجناة الحقيقيين الذين يقفون خلف هذا العمل الخبيث من أجل محاسبتهم عندما تحين لحظة الحساب. كما وأنّ المطلوب تحصين المدينة في مواجهة أية محاولات أخرى أو جديدة يمكن أن تجري، لأنّ الأمر لن يقف عند الحدّ الذي وصلت إليه الأمور، فالمتربصين شرّاً بالمدينة في الداخل والخارج سيكرّرون المحاولة، وأبناء المدينة وقياداتها يجب أن يكرّروا التصدّي لها، وذلك من خلال التنسيق وإنشاء جبهة عريضة لا تسمح باستخدام المدينة كل مرّة ساحة لتصفية الحسابات أو صندوقة بريد لتبادل الرسائل.

بيروت في 3/2/2021