الشيخ نزيه مطرجي
إن المزاح خُلُقٌ مباح ما كان من الصِّدق الصُّراح، وما كان من الكذب والخِداع فإنّ على المؤمن التخلُّص منه والامتناع، ومن غريب كلمة المزاح أنها تضُمُّ في طَيّاتها معناها، وقد قال بعضُ السَّلف: أتدرون لم سُمِّيَ المِزاح مِزاحاً؟ قالوا لِـمَ؟ قال: لأنه أزاح صاحبه عن الحقّ!
ومَن يُكثر من المزاح أو كان طبعُه المزاح، فإنه قلَّما يصدق أو يتحرّى الصِّدق، بل يجري الكذب في كلماته والحروف مجرى الدماء في العُروق! ويكون مثَلُه كمثل الـمُنجِّم الذي يقول الكلمة من الحق ويَخلطُ معها مائة كذبة! وكمثل الشعراء الذين هم في كلِّ وادٍ يهيمون، والذين يقولون ما لا يفعلون، ويدَّعون أن أعذبَ الشِّعر أكذَبُه!
قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له يوماً: «يا رسول الله إنك تُداعبُنا! فقال نعم، غير أني لا أقول إلّا حقّاً!» أخرجه الترمذي.
وصف بعض السَّلف النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: كانت له المهابة العُظمى، فلو لم يُمازح الناس لما أطاقوا الاجتماع به والتلقّي عنه، وكان يمزح ولا يقول إلّا حقّاً. ومن أمثلة مِزاح النبي صلى الله عليه وسلم ومُداعبته لأصحابه أن رجلاً من البادية اسمهُ زاهر، وكان دميماً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبُّه، فأتاه يوماً وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفهِ وهو لا يُبصِره، فقال من هذا؟ أرْسِلني! فالتفتَ فعرَف أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي حين عرفه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: مَن يشتري هذاالعبد؟ فقال: يا رسول الله إذاً والله تجدني كاسِداً! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكن عند الله لستَ بِكاسد، أو قال: أنت عند الله غالٍ! أخرجه أحمد.
ومن شواهد هذا المِزاح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في بيت عائشة فبعثَ إليه بعض نسائه بقَصعةٍ (طبق فيه طعام) فدفعتها عائشة فألقتها وكسرتها من شدة غَيْرتِها!! فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يضُمُّ الطعام ويقول: «غارت أمُّكم»، فلما جاءت قصعة عائشة بعث بها إلى صاحبة القصعة التي كسرتها، وأعطى عائشة القصعة المكسورة تعويضاً عما صنعت!
إن المشروع من المزاح في الإسلام أن يكون نصيبُه من وقت الإنسان قَدْراً يسيراً، على قدر ما يُعطى من الملح للطعام!
إن المؤمن الذي سيُسأل يوم الجزاء عن عُمره فيما أفناه، منهيٌّ عن الإفراط في المزاح والـمُداومة عليه، واتخاذه حِرفةً يواظب عليها، ولهْواً يُغالي في فِعله، فإن الإفراط في المزاح يورِثُ كثرة الضحك، وكثرة الضحك تُميت القلب وتُسقِط الـمَهابة والوقار كما يذكر العلماء.
لقد نبَّه السّلف إلى مخاطر الـمُغالاة في المزاح، فقال عمر رضي الله عنه: مَن كَثُر ضَحكُه قلَّت هيبَتُه، وكَثُر سَقَطُه، ومن كثر سَقَطُه قلَّ حياؤه، ومن قل حياؤه قلَّ ورَعُه، ومن قلَّ ورعُه مات قلبه وغَفَل عن آخرته.
إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبَكَيتُم كثيــراً» أخرجه الترمذي.
إنه ليُخشى أن يفعل المِزاح بأهله ما نهى عنه الإمام الـمُجدِّد القائل: «لا تُكثِر الضَّحِكَ فإن القلب الموصول بالله ساكنٌ وَقور، ولا تُكثر الـمِزاح فإن الأمة المجاهدة لا تعرف إلا الجِدّ».
إن الإفراط في اللهو والمزاح يأكل الهَيْبَة كما تأكُل النار الحطب، وجاء في الحديث الشريف: «أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبَض الجنة لمن ترك المِراء وإن كان مُحِقّاً، وببيتٍ في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازِحاً، وببيتٍ في أعلى الجنة لمَن حَسُن خُلُقه» أخرجه الترمذي.
إن الفِطام من فضول الكلام لا يبلغ التَّمام حتى يدَعَ المؤمنُ الغُلوَّ في المزاح والكذب فيه، فإذا أقلع عن ذلك وجب الصبرُ على مرارة الفِطام، فإن من ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه. ها قد شارف مركَبُك ساحل بحر المنون، فحذار أن تُقصِّرَ نفسُك أو تهون!