إن طبيعة الطغاة وجبلّتهم واحدة في كل عصر ومصر، وموقفهم من أصحاب الدعوات والمصلحين لا يتغير، وهو دائماً الإعراض والاضطهاد، والتكذبب، والتنكيل والتعذيب والقتل، وصدق ربنا فى وصفهم حيث يقول تعالى: >أَتَوَاصَوْا بِهِ.. بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ<} الذاريات: 53.
ولذلك لم يكن حادث أصحاب الأخدود هو خاتمة الأحداث، وليس نهاية المطاف، فالبقية آتية، والأحداث تتكرر وإن اختلفت الأسماء والأماكن والبلدان.
وإن الذي حدث في «رابعة العدوية» بمصر في عصرنا الحاضر لهو قريب من حال أصحاب الأخدود، فقضية أصحاب الأخدود كانت قضية إيمان وعقيدة، قال سبحانه: >وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ < البروج: 8.
فالإيمان بالله تعالى كان دائماً سبباً للنقمة، والقتل، والحرق، والإبادة من الظالمين والجبارين، وأهل رابعة كانت قضيّتهم هي نفس القضية، حيث تمسكوا بعقيدتهم، وحريتهم، وشرعيتهم، فكانت هذه جريمتهم.
أصحاب الأخدود تسلط عليهم أعداء لهم طغاة قساة القلوب، أرادوا منهم ترك عقيدتهم والارتداد عن دينهم، فأبوا وتمنعوا، وأهل رابعة تسلط عليهم طغاة جبّارون من بني جلدتهم، ماتت فيهم كل معاني الإنسانية، أرادوا منهم أن يتخلوا عن حريتهم، وشرعيّتهم ومبادئهم.
أصحاب الأخدود شق لهم الطغاة شقاً في الأرض، وأوقدوا فيه النيران، وكبّوهم فيها فماتوا حرقاً، على مرأى من الجموع التي حشدها المتسلطون لتشهد مصرع الفئة المؤمنة.
وأهل رابعة قتلوا بهذه الطريقة البشعة، فضربوا بالأسلحة الفتاكة، وأحرقوا بالنار على مرأى ومسمع من العالم كله، إن الذي حدث في رابعة ليس نهاية المطاف، فالبقية آتية هناك، والجزاء الذي يضع الأمر في نصابه، ويفصل فيما كان بين المؤمنين والطغاة آت، وهو مقرّر مؤكد، وواقع كما يقول عنه الله تعالى: >إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ<.. ومضوا في ضلالتهم سادرين، لم يندموا على ما فعلوا >ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ <، وينص على «الْحَرِيقِ».. وهو مفهوم من عذاب جهنم، ولكنه ينطق به وينص عليه ليكون مقابلاً للحريق في الدنيا، وبنفس اللفظ الذي يدل على الحدث، ولكن أين حريق من حريق؟ في شدّته أو في مدّته! وحريق الدنيا بنار يوقدها الخلق، وحريق الآخرة بنار يوقدها الخالق! وحريق الدنيا لحظات وتنتهي، وحريق الآخرة آباد لا يعلمها إلا الله! وهذا الجزاء توعّد الله به من قتل مؤمناً بغير حق، يقول تعالى: >وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً< النساء: 93، 94.
هذا مصير الظلمة الجبارين..
فما مصير المؤمنين؟
إنه رضا الله عنهم، ويتمثل رضا الله وإنعامه على الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة: >إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ<.. وهذه هي النجاة الحقيقية: >ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِير<.. والفوز: النجاة والنجاح، والنجاة من عذاب الآخرة فوز، فكيف بالجنات تجري من تحتها الأنهار؟ أما في الدنيا فنصر من الله وفتح قريب. إن وعد الله قاطع جازم: >إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ. يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ< غافر: 51 - 52.. بينما يشاهد الناس الدعاة إلى الله، فمنهم من يقتل ومنهم من يهاجر من أرضه مطروداً، ومنهم من يسام العذاب، وفيهم من يحرق بالنار، وفيهم من يستشهد، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد.
فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟
ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل، ويفعل بها الأفاعيل! ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور، ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير.
فالبطش الشديد هو بطش الجبار، الذي له ملك السماوات والأرض، لا بطش الضعاف المهازيل الذين يتسلطون على رقعة من الأرض محدودة، في رقعة من الزمان محدودة.
ولذلك فإن بعد الشدة ووصول الأمر منتهاه يأتي الفرج من الله، ألم تقرأ قول الحق: >أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ..< البقرة:214، فالفرج إنما يأتي مع الشدة، والنصر إنما يكون مع الصبر: >فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً.. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً< } الشرح: 5، 6.}