:جوان كول
لا بد أن المحللين الذين بالغوا في اعتبار الانقسام السني الشيعي مفتاحاً لفهم السياسة في الشرق الأوسط يحكون رؤوسهم الآن، حيث تشهد المنطقة صراعاً يهدد السياسة فيها بين دولتين سنّيتين متزمتتين (وهابيتين في الواقع)، هما المملكة العربية السعودية وقطر. يشترط تحالف تقوده السعودية على قطر الاستجابة إلى ثلاثة عشر مطلباً بحلول الثالث من تموز، ولكن لا يوجد بعد ما يشير إلى أن حكومة قطر لديها أي خطط للرضوخ لهذه المطالب. في نفس الوقت سارعت إيران وتركيا إلى نصرة قطر، وهبّتا للدفاع عنها. فهل كل ما ستنجزه السعودية هو أنها ستقوي نفوذ إيران في الخليج؟
تشتمل المطالب السعودية على قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران والتوقف عن دعم جماعة الإخوان المسلمين وإغلاق شبكة الجزيرة الفضائية، أهم مصدر لشهرة الإمارة (إلى جانب ثرائها الواسع بفضل ما يتوافر لديها من غاز طبيعي). عمدت المملكة العربية السعودية إلى فصل شبه جزيرة قطر فصلاً برياً تاماً وقطعت عنها خطوط الإمداد البرية، فلم تعد تصلها المواد الغذائية القادمة من بلاد الشام إلى الدوحة عبر السعودية. كذلك حظرت الرياض وحلفاؤها (بمن فيهم مصر) على الخطوط الجوية القطرية حق التحليق في أجوائها والهبوط في مطاراتها (وهو إجراء غير شرعي ومخالف للقانون الدولي). والآن، تهدد دولة الإمارات العربية المتحدة بأن قطر يمكن أن تعزل بشكل دائم وتكون عرضة للمقاطعة الاقتصادية من قبل مجلس التعاون الخليجي بأسره.
بادر رئيس إيران حسن روحاني بالاتصال يوم الأحد الماضي بأمير قطر الشاب الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ليؤكد له أن مطارات إيران ومجالاتها الجوية مفتوحة أمام الدوحة، وأن إيران على استعداد لتوسيع علاقاتها الاقتصادية، وخاصة في ما يتعلق بالقطاع الخاص. وأرسلت إيران عدة طائرات محملة بالأغذية إلى الإمارة الصغيرة، رغم أن المواطنين القطريين الأثرياء، الذين يبلغ تعدادهم نحو 300 ألف نسمة، ليسوا في خطر من ألا يتمكنوا من تحمل أسعار المواد الغذائية المكلفة التي تستورد بحراً وجواً، إلا أن ارتفاع أسعار البضائع الاستهلاكية قد يسبب موجة خروج بين بعض العمال الأجانب الذين يصل تعدادهم إلى 2.5 مليون نسمة.
تشير قطر إلى أن مطالبة السعودية إياها بأن تقطع علاقاتها مع إيران ليس من المنطق في شيء، وذلك أن البلدين يشتركان في حقل ضخم للغاز الطبيعي يمتد تحت قاع الخليج. تمكنت قطر من تطوير حقولها وتصدير المنتج باستخدام تقنية الغاز الطبيعي المسال، الذي يمكن أن يعبأ في أنابيب ثم يصدّر بحراً. لم يسمح لإيران بالحصول على هذه التقنية بسبب العقوبات التي كانت مفروضة عليها. ولذلك تتقدم قطر شريكتها بمراحل من حيث تطوير الحقول، الأمر الذي سـبّب في الماضي توتير المشاعر داخل طهران. بمعنى آخر، إذا كانت قطر بحاجة إلى الحديث مع إيران، فما ذلك إلا بسبب خلاف قديم وقائم بينهما وليس لأن قطر منحازة إلى إيران في معظم القضايا.
وبالفعل، في سوريا تقف قطر في مواجهة إيران في الحرب الأهلية الدائرة هناك. فبينما تساند قوات الحرس الثوري الإيراني النظام البعثي لبشار الأسد، تدعم قطر الجيش السوري الحر، ذي الأغلبية السنّية (الذي يرتبط معظم أفراده بعلاقات مع جماعة الإخوان المسلمين السورية)، بما في ذلك جماعات متشددة نسبياً مثل أحرار الشام، التي لم تتردد في التحالف في أرض المعركة مع منتسبي القاعدة في سوريا داخل جبهة فتح الشام، والتي كانت تعرف باسم جبهة النصرة، التي تقول الآن إنها قطعت روابطها بزعيم القاعدة أيمن الظواهري، إلا أنها بشكل عام لا تصدق في ذلك. ومع ذلك فقد دعمت المملكة العربية السعودية هي الأخرى مجموعات داخل سوريا أكثر تشدداً من جماعة الإخوان المسلمين المعتدلة، بما في ذلك جيش الإسلام.
من الجدير بالذكر أن طهران ودمشق هما اللتان تعتبران منتسبي الجيش السوري الحر إرهابيين. ونظراً إلى أن إيران وروسيا تمكنتا تقريباً من كسب الحرب الأهلية السورية، بينما انهزمت المجموعات التي تدعمها قطر وألجئت إلى الاحتماء بجيوب قاصية في الأرياف، فإن بإمكان إيران الآن أن تمارس دور اللاعب الشهم والنبيل. فهي الآن تسعى لتجاوز خلافاتها مع كل من قطر وتركيا (وهذه الأخيرة كانت هي الأخرى تدعم مجموعات من الثوار السنة حلت بهم الآن الهزائم– سواء أكانت أصولية أم ليبرالية). والآن، تخوض روسيا وإيران مفاوضات مع الثوار السوريين في أستانا، في قزخستان، تشارك فيها بشكل فعال كل من تركيا وقطر.
إن المملكة العربية السعودية ودولة قطر هما البلدان الوحيدان اللذان يلتزمان بتعاليم الداعية الأصولي محمد بن عبد الوهاب الذي عاش في منتصف القرن الثامن عشر. بينما يمكن اعتبار الإسلام السني أشبه بالخيمة الكبيرة التي تنأى بنفسها عن التكفير والإقصاء، إلا أن الوهابيين تقليدياً يستسهلون إخراج الناس من ملة الإسلام لأتفه الأسباب، وكان ذلك هو موقفهم من سلاطين العثمانيين السنة، رغم أن الدولة العثمانية كانت واحدة من أكبر الإمبراطوريات المسلمة وأطولها عمراً.
تتهم المملكة العربية السعودية قطر بدعم الإرهاب (وهي تهمة لا أساس لها على الإطلاق)، ولكنها إذ تفعل لا تقصد بذلك المجموعات المتطرفة في سوريا. بل إن المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر هي التي قررت تصنيف جماعة الإخوان المسلمين على أنها منظمة إرهابية، وهي تهمة أبعد ما تكون عن الإنصاف. تأسست جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928، وكانت في بداياتها حركة إحياء وتجديد من قبل مجموعة من الإسلاميين المعارضين للهيمنة البريطانية على بلادهم. وبعد أن أعادت بريطانيا احتلال مصر أثناء الحرب العالمية الثانية، اتجهت جماعة الإخوان المسلمين إلى ممارسة القتال، واستمرت خلية تابعة لها تمارس ذلك طوال أربعينيات وبعضاً من خمسينات القرن الماضي.
ولكن في مطلع السبعينيات أبرمت قيادة الحركة ميثاقاً مع الحكومة القومية التي كان يقودها الرئيس أنور السادات تعهدت بموجبه بالتخلي عن العنف السياسي. ومنذ ذلك الوقت، التزمت الجماعة ما تعهدت به، وما لبثت، وعلى مدى عقود، تشارك في الانتخابات البرلمانية، وقد فازت فعلاً في الانتخابات البرلمانية في مصر عام 2011 وفي الانتخابات الرئاسية فيها عام 2012.
يمكن اتهام جماعة الإخوان المسلمين خلال الفترة من 2011 إلى 2013 بأنها بالغت في الثقة بنفسها وأخطأت تقدير الموقف، ولكن لا يجوز بحال اتهامها بالإرهاب. ما من شك في أن انقلاب المشير عبد الفتاح السيسي في صيف 2013 مهدت له جموع الجماهير المصرية الساخطة، وكان السيسي بحاجة إلى ذريعة في ما بعد حتى يحصل على الشرعية لحكومته. يحتمل أن يكون السيسي قد تشاور مع السعوديين حين أعلن جماعة الإخوان منظمة إرهابية. بعد ذلك، قتل منهم الآلاف وسجن عشرات الآلاف، وحاول جاهداً استئصال واحد من أكبر وأعرق الأحزاب السياسية المصرية. احتجت قطر على ذلك ومولت قناة فضائية مؤيدة للإخوان ومعارضة للسيسي، ولكن دون جدوى. أما المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة فقد وقفتا إلى جانب السيسي وزوّدتاه هو وضباط الجيش بمساعدات بلغت مليارات الدولارات، رغم أنه ليس واضحاً الآن إلى أين ذهبت كل تلك الأموال.
وطالما كانت دولة الإمارات العربية المتحدة أقرب مودة لإيران وأوثق علاقة بها من قطر. ويعتقد على نطاق واسع أن المصارف الإماراتية كانت تناط بها مهمة غسل الأموال لمصلحة إيران في سنوات العقوبات. ويعيش في دولة الإمارات العربية المتحدة الآن ما يقرب من نصف مليون إيراني. بالمقابل، كانت تعيش في قطر جالية صغيرة من المغتربين الإيرانيين، إلا أن معظم أفرادها شجعوا على المغادرة. فلو كان ذلك هو الدافع لكان الأولى أن تصب المملكة العربية السعودية جام غضبها أولاً وقبل كل شيء على آل مكتوم في دبي. إنما الدافع الحقيقي يكمن في الرؤية الشعبية للإسلام كما تقدمها جماعة الإخوان المسلمين في مقابل السلفية المتشددة والمناصرة للنظام الملكي الذي يفضله آل سعود. في هذا الصراع، بين جماعة الإخوان التي أثبتت في كثير من الأوقات قدرتها على التعايش مع المؤسسات اللبرالية من جهة والمنظومة السلطوية السلفية من جهة أخرى، توجه إلى عائلة آل ثاني التي تحكم قطر التهمة بأنهم يمثلون «الأمراء الحمر».}