العدد 1690 /19-11-2025

عبد الحميد اجماهيري

شرع المغرب رسمياً في مشاورات وطنية واسعة من أجل "تحيين" مبادرته للحكم الذاتي في أقاليمه الصحراوية، التي سبق أن قدّمها إلى الأمم المتحدة لـ"الخروج من المأزق" الذي وجدت نفسها فيه بعد إقرارها باستحالة تنفيذ الاستفتاء. ومن المتوقّع أن تشارك في هذه المشاورات كلُّ أطياف الحقل السياسي والنقابي والمدني، كلٌّ من موقعه وتجربته. وتأتي هذه المشاورات في أفق تقديم خطة العمل المقترحة للتفاوض حول أفق ترسيم حلّ نزاع الصحراء وتنزيله، بعد الخطاب الذي ألقاه العاهل المغربي يوم 31 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، في اليوم نفسه الذي تبنّت فيه الدول أعضاء مجلس الأمن المقترح، ليصبح بذلك خطّةً أمميةً. ولم تمرّ سوى أيام قليلة حتى بدأت المشاورات بين زعماء الأحزاب السياسية ومستشاري الملك في شؤون الدولة والخارجية والأمن والإدارة والتنظيم الترابيَّيٍْن، ممّا يبيّن أن المغرب يريد أن يجعل من العام الحالي عام الحسم النهائي (انظر للكاتب: "هل يجعل المغرب من 2025 سنة مساءلة الأمم المتحدة؟"، "العربي الجديد"، 14/01/2025).

ومن الواضح أن المشاورات المغربية ـ المغربية لا تعني أنّ الدولة ليست لها تصوّرات في الموضوع، كما كانت لها في 2007 وجعلتها موضوع تشاور سياسي وقتها، بل تنحو إلى جعل العملية فعلاً وطنياً أكثر منه فعلاً دبلوماسياً، وإن كان الملك محمّد السادس قد جعل الفاعل الحزبي شريكاً سيادياً في موضوع كان عادةً حقلاً محفوظاً دستورياً للملك. لا يخرج التشاور الوطني عن مبدأ ثابت يجعل من السيادة على الصحراء النظّارات التي يُنظر من خلالها إلى التنزيل الفعلي للمقترح. وفي الواقع، تُعتبر التشاركية التي اعتمدها رئس الدولة المغربية و"أمير المؤمنين" فيها هي الأسلوب القاعدي كلّما تعلّق الأمر بالتعاقدات الكبرى التي تهم الدولة أو المجتمع، وقد حدث ذلك في تغيير "مدونة الأسرة"، وفي قضية النموذج التنموي الجديد، وفي التنظيم الجهوي للتراب الوطني، وفي قضية الدستور، حتى بات الأمر يتعلّق بإنتاج جماعي للاستراتيجيات الكبرى، تسهر الدولة من بعدُ على تنزيلها.

من دون الدخول في تفاصيل كل ما سيُطرح من نقاشات، وما يليها من أجوبة متعدّدة الروافد، يمكن أن نلخّص الأسئلة القوية في تسيير السيادة، المنبثقة من وحدة التراب ووحدة الأزمة، مع الحكم الذاتي الذي سيشكّل نظاماً متميّزاً في علاقات المركز مع إقليم الصحراء، موضوع النزاع الدولي، أي كيفية الجمع بين السيادة بوصفها أولوية وسقفاً، بدايةً ونهايةً، وبين الحكم الذاتي بوصفه سلطاتٍ محلّيةً واسعةً بالمعايير الدولية، كيف سيحتوي النموذج السياسي للدولة الموحّدة امتياز الحكم الذاتي؟

نجد بعض الأجوبة في النموذج الأصلي للمقترح الذي سيصير إليه التنظيم الترابي سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وتوجد عنه نصوص في المادة 11 من الفقرة الثانية المتعلّقة بالعناصر الأساسية للمقترح المغربي، وتقول إن "المشروع المغربي للحكم الذاتي مستلهم من مقترحات الأمم المتحدة ذات الصلة، ومن الأحكام الدستورية المعمول بها في الدول القريبة من المغرب جغرافياً وثقافياً". وهو مشروع يقوم على ضوابط ومعايير معترف بها دولياً.

أول ما نلتقطه الإشارة إلى الجوارين الجغرافي والثقافي، وهنا لا يمكن إلا أن ننظر إلى بوصلة الشمال، وبالأخص إسبانيا، لأنها أولاً تقدّم نماذج متنوّعة في الحكم الذاتي، بين تجربة إقليم الباسك وإقليم كاتالونيا وإقليم الأندلس. ولأنها ثانياً هي الدولة المُستعمِرة سابقاً، وهناك تعالقات لا يمكن نفيها بخصوص النموذج الذي تستحضره الساكنة بفعل الاحتجاج، قبل تحرير الصحراء في 1975 وبعدها، أو في التأثر بتجارب مدريد في باب حلّ تناقضات التراب، كما أن النماذج الإسبانية يكون الأساس الثقافي فيها حاضراً بقوة، لا سيما كاتالونيا والباسك. وثالثاً، كلا النظامَيْن، المغربي والإسباني، مَلَكيٌّ، إضافة إلى التعددية السياسية والإثنية والثقافية التي تقرّب بين الجارَيْن المتوسطيَّيْن. بالتالي، فإن المغرب ينظر إلى الشمال، ويمكن أن يستلهم منه تجربته في الحكم الذاتي. والتوازن بين مؤسّسات الدولة الموحّدة وقواعدها وثباتها فيه قرابة أيضاً بين البلدَيْن، ممّا يسهّل التفاعل معها، من دون أن يكون ذلك استنساخاً لها بأيّ شكل من الأشكال. الدولة، باعتبار هذه الهيكلة أو النظام الخاص، من "دلائل السيادة".

تُبيّن مقترحات الحكم الذاتي في وضعها الأصلي، وكما تقدّم بها المغرب منذ 18 سنة، أن نواة "تنظيم خاص" موجودة، والتحيين والتفصيل سيزيدان من رسوخها وحضورها، ولا ننتظر العكس. ومن ذلك الحديث عن "تولّي سكّان الصحراء، وبشكل ديمقراطي، تدبير شؤونهم بأنفسهم من خلال هيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية، تتمتّع باختصاصات حصرية". وهو ما يعني أن التنظيم السياسي والمؤسّساتي للحكم الذاتي يتضمّن حكومة وبرلماناً وسلطة قضائية، إلى جانب البرلمان والحكومة والقضاء الوطني، وهو ليس تابعاً له ولا تحت سلطته، بل يقع تحت سيادة سلطة سيادية ترتكز على مقوّم الدولة الأمة، كما يرتكز على مقوّم البيعة التي كانت حجّة المغرب في محكمة العدل الدولية في ترافعه عن الروابط التي تجمع السكّان والأرض في الصحراء بالمغرب وعرشه. وهو ما يفيد بأننا سنكون أمام نظامين ترابيين وتدبيريين، وملكية واحدة، كما يقول كاتب هذه السطور. ولعلّها التجربة الوحيدة والفريدة في العالم العربي، التي سيكون المغرب قد اجترحها لترابه، مستلهماً تاريخه كما يستحضر التجارب الدولية.

من التخوّفات التي سمعها كاتب هذه السطور، وعبّرت عنها أصوات سياسية كثيرة، الخوف من تفاعلات "لعبة الدومينو"، بما يعني الإغراء بأن يصبح المغرب عرضةً لأحلام الحكم الذاتي في مناطق أخرى. ويمكننا أن نستند إلى قوة الدولة، وإلى التاريخ المغربي، ممّا تمت الإشارة إليه، للاطمئنان، وهو ما يقودنا إلى النقطة الموالية.

تُبيّن مقترحات الحكم الذاتي في وضعها الأصلي، أن نواة "تنظيم خاص" موجودة، والتحيين والتفصيل سيزيدان من رسوخها وحضورها

يقول عبد الله العروي ("دفاتر كوفيد"، ص 132): "في إطار البيعة، تم وضع تصوّر مخطّط الحكم الذاتي واقتراحه من دون إثارة معارضة من طرف الأحزاب الوطنية". ويذهب بعيداً في القول إن "حكماً ذاتياً في الريف أو في سوس في حكم الوارد تصوّره على المدى البعيد، وفي الإطار الدستوري الحالي". وهو ما يقوّي القدرة المؤسّساتية للدولة وهيئاتها لاستيعاب كل الممكنات السياسية والترابية التي يمكن للمغرب أن يتعامل معها في إطار الحكم الذاتي، دولة قادرة على التفاوض مع المتطلبات الترابية التي تفرزها المرحلة الجديدة.

ولعل التفكير من داخل منطق الدولة يفضي إلى الدفاع عن "تقرير المصير من منطلق تقدّمي" ضدّ التجزئة والتفكيك والانفصال. ولعل في هذه الفكرة نفسها إحالة على التدبير السياسي المطلوب اليوم في تدقيق مبادرة الحكم الذاتي وقواعدها التي حدّدها خطاب 31 أكتوبر، تدبير يجمع بين ثوابت البيعة ومتغيّرات المشاورات السياسية والأممية لقضية ذات أهمية قصوى، ذات علاقة بالسيادة.