العدد 1666 /4-6-2025

أحمد سعداوي

يرى أنطونيو غرامشي أن "المجتمع السياسي" هو ذلك الفضاء الذي تمارس فيه الدولة وأجهزتها القسرية (الجيش والشرطة والقضاء) سلطتها على المجتمع العام، بينما "المجتمع المدني" هو فضاء الفعّاليات الاجتماعية المنظّمة من نقابات وجمعيات وصحف ومدارس ودور عبادة. والتي تتلقّى الفعل السياسي من الدولة، أو تتفاعل معه. بينما يرى المفكّر الأميركي المعاصر بارينغتون مور، أنه لا يوجد فاصل فعلي بين المجموعتَين، وأن تعريف المجتمع السياسي يشمل كلّ القوى التي تتنافس على السلطة والنفوذ والثروة داخل المجتمع، بما يشمل الأحزاب والجماعات المسلّحة، ونضيف إليها في العراق والمنطقة العربية: العشائر والتحالفات القبلية والطوائف الدينية الصغيرة.

عملياً، حتى العام 2003، كان المجتمع السياسي في العراق، بمفهوم غرامشي أو مور، أحادياً شمولياً، لا يتيح مجال التعبير إلا لقوّة واحدة مهيمنة تفرضها نسخة صدّام حسين من حزب البعث العربي الاشتراكي، وعائلته. وتتجلّى هذه القوّة في السلطة الحاكمة والجيش والقضاء، وفي النقابات والمنظّمات، وكلّ التنظيمات الاجتماعية المختلفة، الأمر الذي تغيّر تماماً بعد 2003، فظهرت سرديات تنظيم اجتماعي مختلفة عن السابق، أساسها تعريف المجتمع العام بعدّه مجموعات طائفية وعرقية مغلقة، ولكلّ مجموعة تيّارات سياسية مُمثِّلة لها.

لم ينهض المجتمع السياسي الجديد بالضدّ من الأحادية السياسية والثقافية السابقة، وإنما ارتدّ الى أشكال ما قبل الدولة من التنظيمات الاجتماعية، وصارت أشكال التعبير المتوقّعة من "المجتمع المدني" خاضعةً للتعريفات الجديدة القديمة، بناءً على إطار عامّ طائفي أو عرقي، لا يكترث كثيراً بالمحدّدات الوطنية، فبديلاً من ديكتاتورية الحزب والجماعة السياسية الاجتماعية الواحدة، قُسّم المجتمع بين حواضن مغلقة تفرض أشكالاً من الترويض والقسر على أفرادها بما يذكّر بالممارسات الاستبدادية السابقة. ولكن هذه الحواضن الاستبدادية تمارس داخل الفضاء الوطني واحداً من أشكال الديمقراطية فيما بينها.

فشلت النقابات والمنظّمات وتشكيلات المجتمع المدني العراقي، والتيّارات السياسية الوطنية (لا ترفع الانتماء الطائفي والعرقي عنواناً لها)، في تفتيت هذا التنظيم السياسي الاجتماعي الجديد، أو التخفيف من تأثيره العام. بل ارتفعت الأسوار أكثر فأكثر، بسبب النزاع القومي (المناطق المتنازع عليها بين الكرد والعرب) والطائفي (حرب المفخّخات والجماعات المسلّحة في المناطق المختلطة طائفياً). وأيضاً، لأن قبضة النظام السياسي الجديد على الريع من واردات النفط أعطته مصادر قوّة وتأثير بسبب قوّة الإنفاق على الاتباع، وعلى وسائل التأثير الاجتماعي من وسائل إعلام وفعّاليات اجتماعية ودينية.

لا يعيش العراق اليوم صراعاً طائفياً صريحاً، ولا حتّى قومياً، على الرغم من النزاع في ملفّات عديدة بين حكومتي المركز وإقليم كردستان. ومن سنوات، يشهد العراق هدوءاً وسلاماً اجتماعياً نسبياً يحفّز على التنمية والتطوّر الاقتصادي. وعلى الرغم من تراجع أسباب التحشيد الطائفي والعرقي، ترفض الجماعات السياسية، التي اعتاشت من هذا التحشيد طوال العقدَين الماضيَين، أن تفسح المجال لأشكال جديدة من فعّاليات المجتمع السياسي، تربط الأفراد بوشائج المصالح ذات الطابع الوطني، وتتجاوز أسوار القبائل السياسية الكُبرى التي فرضها نظام ما بعد 2003.

المسرح السياسي الحالي، قبيل انتخابات تشرين الثاني 2025 المُقبلة، رُسم بتراث العشرين سنة الماضية الطائفي والعرقي، ولا يمكن للتيّارات السياسية الوطنية الجديدة القفز عنه بسهولة. إنها مجبرة على التعامل البراغماتي معه، ريثما تتمكّن مستقبلاً من فرض نفسها لاعباً سياسياً أساسياً، يساهم في تعديل قواعد العمل السياسي في البلد. كما أن الكيانات السياسية الكُبرى (الطائفية والعرقية)، على الرغم من إدارتها لصراع سياسي مع خصومها وفق قواعد الديمقراطية، إلا أنها ظلّت حريصةً على تكييف مخاطر الديمقراطية الشاملة، وتفتيت محتواها العميق، وجعلها مجرّد عملية اقتراع دوريّة. وهي بذلك لم تصنع مجتمعاً سياسياً فعّالاً. وبسبب غياب هذا المجتمع تراجعت في السنوات الماضية حماسة فئات كثيرة تجاه العمل السياسي، إن كان ترشيحاً أو تصويتاً. ولكن هذا الواقع، بحدّ ذاته، ليس مبرّراً لغسل اليد من العمل السياسي من التيّارات الوطنية الجديدة، إنما هو تحدّ يجب أن تعيه، وتحاول التعامل معه.