العدد 1661 /30-4-2025
نجوى بركات
مع وفاة البابا فرنسيس، خسر الكرسي الرسولي شخصيةً حاولت
بأناة وجهد، ونجحت (إلى حدّ ما) في إعادة وصل الكنيسة بالعالم، من خلال خطابٍ
ومواقفَ تركّزت بشكل أساس في التضامن مع قضايا الفقراء والعدالة والسلام. واليوم،
ومع الانعقاد القريب للمجمع السرّي المغلق لاختيار الحبر الأعظم الجديد، يتنامى
القلق وتكثر التساؤلات: هل يذهب الكرسي الرسولي في اتجاه انخراط أوسع في قضايا
العالم، أم يعود إلى حياده التقليدي؟ ومن تُراه سيكون الفائز، تيّار إصلاحي يدعو
إلى حضور أكثرَ جرأة، أم آخر محافظ يتمسّك بالتقاليد؟... في الحالتَين، سيكون
الخيار المقبل حاسماً في تحديد دور الفاتيكان في المسرح الدولي، وعلاقة الكنيسة
الكاثوليكية بأبنائها عبر العالم.
وبنظرة سريعة إلى مواقف الكرسي الرسولي التاريخية، خلال
المحطّات الكبرى في القرن العشرين، نرى أن الفاتيكان نزع مع صعود النازية في
ألمانيا إلى تبنّي سياسة الحياد، وذهب حدّ توقيع اتفاقية مع الرايخ الثالث (1933)،
من أجل ضمان حقوق الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا، من دون أن يعني الأمر دعماً
صريحاً للنازية. بيد أنّ انتقادات وُجّهت إليه لاحقاً، متّهمة إياه بتوفير شرعية
ضمنية لهتلر وسياساته الإجرامية. عام 1937، أصدر البابا بيوس الحادي عشر الرسالة
البابوية "مع قلق عظيم"، طاولت بعض السياسات النازية، من دون التركيز
الصريح في معاداة السامية. ومع الحرب العالمية الثانية، التزم البابا بيوس الحياد
العلني، فيما اقتصر دعم الكنيسة لليهود على مبادرات فردية، سرّية ومحدودة، وهو ما
أثار جدلاً حادّاً (واسعاً) بعد انتهاء الحرب، فوُجّهت انتقادات لاذعة إلى
الفاتيكان بسبب ما اعتُبر من قبله صمتاً غير أخلاقي تجاه المحرقة.
مع هجرة اليهود إلى فلسطين، وبدء الاستيطان القسري، ثمّ بعد
انتهاء الحرب العالمية الثانية، واجه الفاتيكان مأزقاً آخر حين دعم الكرسي الرسولي
قرار تدويل القدس عام 1947، مركّزاً في ضرورة حماية الأماكن المقدّسة لجميع
الأديان. وعند إعلان دولة إسرائيل، تريّث الفاتيكان عقوداً قبل أن يعترف بها
رسمياً. أمّا حيال القضية الفلسطينية، فقد أكّد منذ البداية ضرورة الحفاظ على
الطابع الخاص لمدينة القدس، متمسّكاً بحماية المقدّسات الدينية وحقوق الفلسطينيين.
عام 1964، زار البابا بولس السادس الأراضي المقدّسة، داعياً إلى السلام والحوار.
ثمّ جاء "الاتفاق الأساسي" مع إسرائيل عام 1993،
تتويجاً لمسار طويل متأرجح ما بين الحذر والمفاوضات، واضعاً إطاراً لحماية الحضور
المسيحي، وتنظيم العلاقات بين المؤسّستين الدينية والدولة الحديثة، مع استمرار
دعمه "حلّ الدولتَين". الاتفاق نصّ على احترام الحرّيات الدينية، وحلّ
بعض القضايا القانونية العالقة، لكنّه لم يطرح حلولاً للإشكالات السياسية الكبرى،
وفي رأسها المتعلّقة بوضع القدس وحقوق الشعب الفلسطيني، وإن كان قد شارك لاحقاً في
دعم الخطوات الرامية للاعتراف بفلسطين، مثل تصويته عام 2012 لصالح منحها صفة دولة
مراقب غير عضو في الأمم المتحدة.
مع تولي البابا فرنسيس منصبه عام 2013، اتسم خطاب الفاتيكان
حيال معاناة الفلسطينيين، ولا سيّما سكّان غزّة، بوضوح إنساني أكبر، وقد دعا
فرنسيس مراراً إلى وقف العنف وفتح ممرّات إنسانية خلال الحروب المتكرّرة على
القطاع. وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2023، قال في عظته في ساحة القدّيس بطرس: "لتصمت
الأسلحة! لتُفتح ممرات إنسانية! غزّة تعاني، الأبرياء يموتون، ولا مكان للكراهية
في قلب من يطلب السلام". هذا الموقف الإنساني عكس رغبة البابا في الابتعاد عن
الخطابات السياسية المباشرة، مع التركيز في الكرامة الإنسانية ومعاناة الضحايا من
الأطراف كافّة.
أخيراً، لا يتعلّق قرار الكرادلة في الأسابيع المقبلة
بانتخاب بابا جديد فحسب، بل ربّما (وخصوصاً) بتحديد الدور الذي ينبغي للكنيسة
تأديته، في عالم مضطرب، متغير، متعثّر، يحتاج ضميراً حيّاً وصوتاً أخلاقياً يناصر
كلّ مظلوم.