عمر كوش
يبدو أن التوتر بدأ يعتري العلاقات التركية الإيرانية مع ازدياد تباين وجهات نظر ومواقف البلدين حيال الملفات الساخنة في المنطقة، وخاصة القضية السورية والوضع العراقي.
وظهرت حدّة التوتر جلية في قيام الخارجية الإيرانية باستدعاء السفير التركي في طهران للاحتجاج على تصريحات «غير ودّية»، أدلى بها كل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خلال جولته الخليجية، ووزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو خلال مؤتمر ميونخ.
ولا شك في أن التوتر بين البلدين سينعكس على الأزمات في منطقة الشرق الأوسط، وعلى مستقبل العلاقات بينهما، وستكون له تأثيرات على كافة قضايا المنطقة.
نهاية الاحتواء
بالرغم من محاولات ساسة كلا البلدين إدارة واحتواء الخلافات بينهما، والإيحاء بوجود تفاهم حول قضايا وأزمات المنطقة، وخاصة بعد انضمام إيران إلى كل من روسيا وتركيا في محادثات أستانة؛ فإن الخلافات بين الأتراك والإيرانيين في سوريا أخذت تطفو على السطح تدريجياً.
وتجلى ذلك في عدم احترام النظام والمليشيات الإيرانية اتفاق وقف إطلاق النار الموقع -برعاية الروس والأتراك- بين المعارضة والنظام السورييْن بأنقرة في 30 كانون الأول 2016، وانزعاج إيران من المطالبة التركية بإخراج كافة التنظيمات والمليشيات الأجنبية -بما فيها حزب الله اللبناني- من سوريا.
غير أن التوتر بين تركيا وإيران يأتي مع بدء الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف حول سوريا برعاية الأمم المتحدة، حيث إن الطرف الإيراني لا يقرّ إلى اليوم بمرجعية جنيف، وخاصة مسألة الانتقال السياسي في سوريا بما يفضي إلى تشكيل حكم انتقالي ووضع حدّ لحكم آل الأسد، وهو أمر يرفضه بشدة ساسة النظام الإيراني.
وفي المقابل، تدعم تركيا المعارضة السورية وترى أن الاستقرار والانتقال السياسي لا يمكن أن يتم في ظل وجود بشار الأسد، المسؤول عن قتل أكثر من ستمئة ألف سوري وتشريد نصف سكان البلاد. وبالتالي فإن التوتر الحاصل ما بين أنقرة وطهران سيترك آثاراً عميقة على تطورات الأحداث في سوريا.
ويبدو أن المسؤولين الأتراك ضاقوا ذرعاً بالسلوك الإيراني في المنطقة العربية، بوصفه مسؤولاً عن عدم الاستقرار فيها عبر دعم قوى سياسية ومليشياوية مذهبية، والعمل على نشر الفرقة والنعرات المذهبية بين السنة والشيعة. وهو أمر أثار حفيظة الأتراك، فدعا رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم إلى التحذير من «التركيز على المذهبية لأنه سيترتب عليها الكثير من الأضرار»، والتذكير بأن «الحروب المذهبية أودت بحياة اثني عشر مليون شخص في ألمانيا».
وهناك خشية من المخطط الإيراني في المنطقة العربية، ليس لدى تركيا فقط، بل لدى العرب، لكونه يهدف إلى تقويض البنى الاجتماعية في كل من سوريا والعراق ولبنان واليمن والبحرين وسواها، تنفيذاً لمشروع هيمنة إيراني راح يكشف عن نهج يرمي إلى تغيير التركيبة الديموغرافية في سوريا -على سبيل المثال- عبر عمليات التهجير وقيام القوى الميليشياوية بارتكاب مجازر ضد الأغلبية السنية فيها.
وكذلك الحال في العراق؛ حيث قامت فرق من الحشد الشعبي بارتكاب مجازر وانتهاكات ضد السكان السنة، في كل المدن والمناطق التي تعرضت لحرب ممنهجة تحت لافتة مكافحة الإرهاب والحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والأمر نفسه يتكرر في الموصل في أيامنا هذه، إضافة إلى أن ساسة إيران لا يزالون يعزفون على نفس الوتر المذهبي في كل المنطقة العربية.
ويبدو أن سياسة الاحتواء والمداراة لن تصمد طويلاً أمام ازدياد التوتر بين البلدين، لأن اختلاف الدور الإقليمي لكل منهما، وتباعد المواقف السياسية بشأن ملفات المنطقة الساخنة، وضعا نهاية لسياسة الاحتواء إيذاناً بفتح صفحات من الاختلاف العلني والتصرفات المضادة، التي ستنعكس على تعاملهما مع الأزمات والحروب في منطقة الشرق الأوسط برمتها.
حدود التوتر
ليس ضرورياً أن يفضي التوتر بين تركيا وإيران إلى مسار تصادمي سواء في العراق أم سوريا، لكن تدخلهما القوي في ملفات المنطقة قد ينعكس سلباً عليها مع ذلك، ما يعني سفك المزيد من الدماء وتفاقم عدم الاستقرار والدخول في مواجهة عسكرية غير مباشرة. وهو ما نجده متحققاً في كل من سوريا والعراق، حيث يمكن النظر إلى وجود قوات تركية شمالي العراق (في كل من بعشيقة ومناطق من كردستان العراق) بوصفه رداً على النفوذ والوجود الإيراني وتمدده نحو الموصل.
كذلك إن عملية «درع الفرت» في الشمال السوري هي -بوجه ما- بمثابة الرد العملي من تركيا على توسع النفوذ الإيراني في سوريا، وخاصة بعد معركة السيطرة على حلب. ولا يمنع ذلك من إضافة الهدف التركي الساعي إلى منع محاولة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي) من تشكيل كيان معادٍ لتركيا على حدودها الجنوبية.
ومع ذلك كله، فإن التوتر بين تركيا وإيران لم يصل إلى حدّ لا تمكن السيطرة عليه، حيث يحرص ساسة البلدين دوماً على احتوائه وخاصة بعد تأسيس علاقات اقتصادية قوية بينهما، لكن ازدهار تجارة ما بين البلدين ليس كافياً ليحول إيران من خصم تاريخي إلى حليف لتركيا.
وعلى هذا الأساس بدأت تركيا تتحرك عبر تمتين علاقاتها مع دول الخليج التي تواجه التهديدات الإيرانية، واتخذ ذلك مسارين: الأول دبلوماسي عبر الجولة الخليجية للرئيس أردوغان، والثاني عسكري جسّدته زيارة رئيس هيئة الأركان التركية خلوصي أكار للخليج، ولقائه نظراءه رؤساء الأركان البحرينية والسعودية والقطرية والإماراتية.
كذلك تبذل تركيا جهوداً لإعادة تطبيع العلاقة مع أميركا، إذ كثرت الاتصالات مع المسؤولين الأميركيين في الإدارة الجديدة برئاسة دونالد ترامب، إضافة إلى زيارات مهمة أداها مسؤولون أميركيون لتركيا، خاصة زيارة رئيس هيئة الأركان الجنرال جوزيف دانفورد، ووزير الدفاع جميس ماتيس، ومدير المخابرات مايك بومبيو.
وتأتي خطوات ومحاولات تقوية العلاقات التركية الأميركية متوافقةً مع الرؤية الأميركية الجديدة التي باتت تعتبر إيران الراعي الأكبر للإرهاب في العالم، ما يجعلها مواتية للحد من تدخلاتها ضد دول المنطقة وشعوبها.
والواقع هو أن تفكير الساسة الأتراك يذهب اليوم إلى تحليل أبعاد المشروع الإيراني التدخلي، بالرغم من كونه غير موجه ضدهم مباشر، وتحكمه موجات ارتدادية ضد العرب تضرب في عمق التاريخ، وتنهل من مرجعيات الثأر لمعارك ومواجهات قديمة عفا عليها الزمن.