العدد 1667 /11-6-2025

في صيف عام 1992، كانت مدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا الأميركية تشتعل بالنيران والغضب. اهتزت المدينة بعد تبرئة ضباط الشرطة الذين عذبوا راكب الدراجة النارية الأسود رودني كينغ.

لم يمت كينغ حينها، لكن المظاهرات تحولت إلى احتجاجات عنيفة، قُتل فيها العشرات، ودُمر معها العديد من المباني، وهو ما دعا جورج بوش الأب، الرئيس حينها، لاستدعاء آلاف جنود الجيش التابعين للحرس الوطني، تلبية لطلب مسؤولي ولاية كاليفورنيا.

لكن بعد جيل كامل، 33 عاما بالتحديد، و6 رؤساء تعاقبوا على قيادة الولايات المتحدة، تعود قوات الحرس الوطني إلى شوارع لوس أنجلوس، لكن هذه المرة بأمر مباشر من البيت الأبيض، وليس بناءً على طلب حاكم كاليفورنيا غافن نيوسوم.

فقد أمر الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإرسال نحو ألفي جندي من الحرس الوطني إلى المدينة، مستعيدا بذلك صورا من الماضي الذي كانت تحاول فيها القوات الفدرالية سحق رموز حركة الحقوق المدنية في الستينيات. بل إن ترامب تجاوز ذلك بأن أمر 700 من مشاة البحرية الأميركية (المارينز) بالوصول إلى لوس أنجلوس لمساعدة قوات الجيش والشرطة في السيطرة على المتظاهرين، كما أنه أبدى استعداده للقبض على حاكم الولاية، نيوسوم، بعد أن هدد بمقاضاة إدارته!

يطرح هذا المشهد سؤالا جوهريا: ما الذي حدث في الولايات المتحدة تحديدا؟ هل نحن أمام لحظة يتم فيها تسخير القوة الفدرالية لأهداف انتخابية يتصارع فيها رئيس الدولة مع حاكم ولاية، أم مجرد امتداد لصراع أميركي طويل على تحديد معنى النظام العام ودور الدولة؟

إذ ومن خلال متابعة ما يحدث الآن في لوس أنجلوس، وخطاب الرئيس ترامب من جهة، ومعارضيه وعلى رأسهم حاكم ولاية كاليفورنيا من جهة أخرى، نستطيع أن نفهم كيف تطورت فكرة استخدام القوة الفدرالية في الشوارع الأميركية، وكيف تغيرت أميركا في العمق: في تصورات الأميركيين عن الدولة، وحدود -أو غياب حدود- السلطة التنفيذية للبيت الأبيض، وهشاشة الديمقراطية الأميركية ذاتها.

ما الذي جرى؟

تشهد مدينة لوس أنجلوس منذ مساء الجمعة السادس من يونيو/حزيران، موجة احتجاجات مشوبة بالعنف في بعض حالاتها.

اندلعت التوترات على إثر قيام ضباط وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك (ICE) بشن حملة مداهمة في أماكن مختلفة من المدينة، اعتقلوا خلالها 44 شخصا بتهمة ارتكاب مخالفات لقوانين الهجرة، الأمر الذي أشعل موجة احتجاجات واسعة في المدينة، سرعان ما تطورت إلى اشتباكات بين ضباط الأمن والمتظاهرين، تحولت فيما بعد إلى أعمال عنف استخدمت خلالها الشرطة قنابل الصوت وقنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق حشود المحتجين الذين حملوا لافتات مكتوب عليها "أخرجوا إدارة الهجرة والجمارك من مجتمعاتنا".

وبحلول السبت، السابع من يونيو/حزيران، وقّع ترامب مذكرة رئاسية أمر فيها بنشر ألفي عنصر من وحدات الحرس الوطني الأميركي بالمدينة على خلفية الاحتجاجات وذلك بالرغم من معارضة حاكم الولاية لهذا القرار، وهو إجراء نادر الحدوث إلا في حالات الاضطرابات القصوى. وبالفعل انتشرت قوات الحرس الوطني بمواقع مختلفة وسط مدينة لوس أنجلوس الأحد، الثامن من يونيو/حزيران.

هذا القرار أثار العديد من التساؤلات في الداخل الأميركي حول التوازن بين سلطة الرئيس وصلاحيات حكام الولايات، كما أطلق العديد من المخاوف والتحذيرات بشأن إمكانية استغلال الإدارة الاحتجاجات لأجل تفعيل قانون التمرد لعام 1807، والذي يسمح للرئيس الأميركي بنشر قوات الجيش في المدن الكبرى لإحلال النظام وكبح التمرد والعنف والاضطرابات الكبرى، وهو إجراء لربما ينذر بتطورات قادمة أكثر خطورة.

ما "قانون التمرد" الذي يلوح به ترامب؟

 إذا رفضت مدينة أو ولاية اتخاذ الإجراءات اللازمة للدفاع عن أرواح مواطنيها وممتلكاتهم، سأقوم بنشر الجيش الأميركي لحل المشكلة.

في يونيو/حزيران عام 2020، خلال فترة ولايته الأولى، هدد دونالد ترامب بإرسال الجيش الأميركي إلى الشوارع إذا لم يستطع حكام الولايات السيطرة على مدنهم. جاء ذلك ردا على استمرار المظاهرات في أنحاء الولايات المتحدة في أعقاب مقتل المواطن الأميركي الأسود جورج فلويد على يد شرطي أبيض من ولاية مينيسوتا، وهو الحدث الذي اندلعت على إثره موجة احتجاجات عنيفة قادتها حركة "حياة السود مهمة" للمطالبة بالعدالة العرقية.

احتجاجات في مدينة مينيابوليس بالتزامن مع محاكمة قاتل جورج فلويد عام 2021. (الأناضول)

غير أنه، وبخلاف ما يوحي تهديد ترامب "المطلق" و"المفتوح"، فإن هناك قيودا تحكم انتشار الجيش الأميركي في شوارع البلدان لقمع الاحتجاجات المدنية.

وبموجب القوانين الأميركية، لا يسمح للجيش بالانتشار في المدن أو المشاركة في عمليات إنفاذ القانون المحلية من دون إذن حكام الولايات، وذلك باستثناء الحالات التي نص عليها قانون صدر في القرن الـ19، يعرف باسم "قانون التمرد لعام 1807، وجرى توقيعه من قبل الرئيس الأميركي الثالث توماس جيفرسون، وهو واحد من "الآباء المؤسسين" للولايات المتحدة.

ويسمح هذا القانون للرئيس الأميركي بالتدخل من دون إذن حكام الولايات، وإنزال قوات عسكرية إلى الشوارع بهدف قمع الاضطرابات الداخلية وحالات التمرد في حالات الطوارئ القصوى وعندما تكون حياة المواطنين مهددة، ولا يمكن في الحالات العادية اللجوء لتفعيل هذا القانون إلا بناء على طلب من الجهاز التشريعي للولاية يمنح الجيش الفدرالي تفويضا بقمع التمرد.

وحتى لا يسيء الرئيس الأميركي استخدام تلك السلطة الممنوحة إليه، جرى إصدار قانون "بوسي كوميتاتوس" لعام 1878، والذي يقيد اللجوء للتدخل العسكري في شؤون الولايات والحكومات المحلية، ويفصل بين مهام القوات العسكرية وأجهزة الشرطة.

هل تفعّل احتجاجات لوس أنجلوس "قانون التمرد" مجددا؟

الجواب على السؤال أعلاه هو أن ترامب ومسؤولي إدارته يلوحون بذلك بالفعل. حيث قام الرئيس دونالد ترامب بإصدار أوامره بنشر ألفين من قوات الحرس الوطني في المدينة، في حين ذهب وزير دفاعه، بيت هيغسيث، أبعد من ذلك ملوحا بأنه في حال استمرت أعمال العنف والاحتجاجات، فهناك 500 عنصر من قوات المشاة البحرية الأميركية (المارينز) على أهبة الاستعداد للانتقال إلى مدينة لوس أنجلوس في أي لحظة، وهو ما يجعل مسألة تفعيل قانون التمرد مطروحة بقوة على الطاولة.

ما مدى قانونية نشر قوات الحرس الوطني رغما عن حاكم الولاية؟

كان من ضمن الأمور التي أثارت قلق ومخاوف المسؤولين الديمقراطيين (ومعارضي ترامب في العموم) ودفعتهم للتحذير من إجراءات الإدارة، مسألة نشر الإدارة الأميركية لقوات الحرس الوطني من دون استشارة حاكم الولاية.

وفي تحليله للموقف، قارن مايكل ويلنر رئيس مكتب واشنطن لصحيفة "لوس أنجلوس تايمز"، بين موقف دونالد ترامب في مواجهة احتجاجات حركة "حياة السود مهمة" للمطالبة بالعدالة العرقية عام 2020، والتي انتشرت في كل أنحاء الولايات الأميركية تقريبا وبين موقفه الحالي من احتجاجات لوس أنجلوس المناهضة لسياسات ترحيل المهاجرين غير النظاميين، مشيرا إلى أن الرئيس الأميركي في ولايته الأولى كان أكثر هدوءا وقدرة على ضبط النفس، وهو ما يدلل عليه تراجعه آنذاك عن تنفيذ تهديداته بتفعيل قانون التمرد لعام 1807، والذي يمنحه تفويضا بنشر الجيش في المدن الأميركية الكبرى.

ماذا بعد التفعيل المحتمل لـ"قانون التمرد"؟

يطرح التصعيد المتسارع في الأحداث الأخيرة عدة تساؤلات حول نوايا إدارة ترامب في تعاملها مع المتظاهرين، إذ تجاوزت الإدارة عدة مراحل في تسلسل الخيارات المعمول بها للرد في مثل هذه الحالات. ويشير مايكل ويلنر من لوس أنجلوس تايمز إلى قلق المسؤولين المحليين من أن يفاقم رد الفعل "العنيف" لإدارة ترامب من حدة الاشتباكات والاضطرابات التي بدأت ببضع مئات من الأشخاص، ويمكن أن تنتهي بتحدٍ أكبر لقوات إنفاذ القانون، مما يهدد استقرار المدينة.

على نطاق أوسع، تحول الوضع في أعقاب الاحتجاجات بمدينة لوس أنجلوس إلى مواجهة مباشرة بين الجمهوريين والديمقراطيين، فقد نشر الصحفي الأميركي المتخصص في الشؤون السياسية داستن غاردينر مقالا في صحيفة "بوليتيكو"، ألمح فيه إلى أن موازين اللعبة قد تغيرت في ولاية كاليفورنيا التي تعد أحد معاقل الديمقراطيين، الذين تجنبوا طوال الأشهر الفائتة مناقشة سياسات الهجرة وملف المهاجرين غير النظاميين، وذلك نظرا للدور الذي لعبه الملف الشائك في فوز دونالد ترامب بالمعركة الانتخابية لعام 2024، ولهذا السبب انغمسوا في قضايا فرعية، وذلك حتى أتت اشتباكات لوس أنجلوس وأعادت ملف الهجرة إلى الواجهة.

 

وفي الأشهر القليلة الماضية، اتخذت إدارة ترامب مجموعة من الإجراءات الصارمة فيما يتعلق بسياسات الهجرة، شملت ترحيل عشرات الآلاف من المهاجرين، وإلغاء برنامج "التنوع والمساواة والشمول" الذي أطلقته إدارة الرئيس السابق جو بايدن، ويهدف لتحقيق التنوع والمساواة (العرقية والجنسية) في المؤسسات والهيئات الحكومية، كما ألغى ترامب تطبيق الجوال "سي بي بي ون" (CBP One) والذي كان يستخدم في تسهيل تقديم طلبات اللجوء، حيث تعرض التطبيق التابع لهيئة الجمارك وحماية الحدود الأميركية للعديد من الانتقادات من قبل الجمهوريين بدعوى أنه يسهل عمليات الهجرة غير النظامية من دون التدقيق في طلبات اللجوء.

على سبيل المثال، وصف سكوت بيترز النائب الديمقراطي بمدينة سان دييغو إحدى مدن ولاية كاليفورنيا، طريقة تعامل إدارة الهجرة والجمارك الأميركية مع العمال المهاجرين في مدينته، بأنها اتسمت بـ"العنف والقسوة البالغة"، وشرح كيف هاجم 20 عنصرا ملثما مطعما إيطاليا راقيا، وقيدوا العمال بالأصفاد وسط ذهول الحاضرين، وألقوا القبض على 4 مهاجرين غير نظاميين، في حين ألقوا قنابل الصوت لتفريق الحشود التي اجتمعت في الخارج للاحتجاج.

 

في غضون ذلك، وصف حاكم ولاية كاليفورنيا، غافن نيوسوم، قرار الحكومة الأميركية نشر ألفي عنصر من الحرس الوطني في لوس أنجلوس بالخطوة "التحريضية والاستعراضية"، قائلا في بيان عام صدر الأحد، الثامن من يونيو/حزيران عن مكتب حاكم الولاية: "حاكم الولاية هو القائد الأعلى للحرس الوطني في ولايته"، معتبرا قيام الرئيس دونالد ترامب بنشر قوات الحرس الوطني من دون استشارة أو موافقة حاكم الولاية "إساءة استخدام للسلطة".