خالد السيد
كثرت التأويلات وراء قرار إطاحة رئيس أركان الجيش المصري، الفريق محمود حجازي، وتباينت الآراء بين الجدّ والهزل لفهم الأسباب التي دعت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، إلى اتخاذ قرار الإقالة المفاجئ، واجتهد متابعو المشهد المصري في تكهّن الأسباب وتبيّن الدوافع. يعود ذلك إلى غياب الشفافية، وهيمنة الضبابية السياسية على قرارات السلطة، وعلى الحالة العامة للمشهد السياسي. هذا ما يدعو المتابعين إلى اعتماد الحدس والتنبّؤ مسلكاً وحيداً، للبحث عن الحقيقة، ومحاولة تفسير قرارات «الجنرال» في سدة الحكم.
يرى المتفحص أن الإدارة المصرية تعاني من تناقضاتٍ عديدة في قرارها إقالة الفريق حجازي. اعتبر عديدون القرار صادماً، نظراً إلى عاملين: الأول أن تعيين صهره محمود حجازي رئيساً للأركان كان قراراً مفصلياً للرئيس للسيسي، إبّان ترشحه لانتخابات الرئاسة عام 2014، حيث أوْلى له ثقة كبيرة في إدارة ملفات عديدة مهمة، كالملف الليبي بتعيينه رئيساً للجنة المصرية المعنية بهذا الشأن. والثاني عدم وجود أي إشارات سابقة لخلافات بين الرئيس السيسي والفريق حجازي، حتى التي باتت قضايا شائكة، كالتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، والتدخلات العسكرية الإسرائيلية المتكرّرة في داخل عمق شبه جزيرة سيناء. وعليه، نناقش أبرز ثلاثة أسباب متداولة بشأن تفسير قرار الإقالة.
ربطت تفسيراتٌ عديدة قرار إقالة الفريق حجازي بحادث الواحات؛ الذي راح ضحيته ما يزيد على 15 شرطياً، بينهم قيادات للنخبة الأمنية، وللمفارقة أن يجتمع في هذا التفسير مؤيدو الرئيس عبد الفتاح السيسي ومعارضوه الذين يعيدون هذا القرار إلى معضلة تقصير الأجهزة الأمنية في الحادثة، والفشل الذريع في إدارة المعركة «ضد الإرهاب»، نظراً إلى تزامن قرار الإقالة مع خروج قيادات مهمة في وزارة الداخلية من مواقعهم. بينما يرى مؤيدو السلطة أن القرار يرجع إلى حكمة الرئيس، أن لا أحد فوق المحاسبة، مهما كان حجم مسؤولياته ودرجة القرابة.
لا يجيب هذا التفسير عن أسئلة عديدة، من أهمها أن وزارة الداخلية هي من يتحمل الجانب الأكبر من تبعات هذه الحادثة (إن لم تكن منفردة)، حيث لم يُبلغ مسؤولوها قيادات الجيش الموجودين في منطقة الحادثة للتنسيق في ما بينهم. وهذا ما يدعونا إلى التفكير، لماذا إطاحة رئيس أركان الجيش وإغفال محاسبة وزير الداخلية مجدي عبد الغفار؟
وفي السياق نفسه، ومنذ أحداث الانقلاب العسكري، تم تنفيذ عشرات العمليات «الإرهابية» ضد قوات من الجيش المصري، أظهرت غياب الاستعداد والكفاءة القتالية لأفراد الجيش، ما أسفر عن سقوط قتلى عديدين. ومن أبرز هذه الحوادث، ما حدث في تموز الماضي من هجوم على نقطة تابعة للجيش في منطقة البرث جنوب رفح، وأسفر عن مقتل 23 ضابطاً وجندياً.
وتطرح تفسيرات عديدة فرضيّة وجود ضغوط من المجلس العسكري، لإزاحة رئيس الأركان محمود حجازي، لتخطيه الأقدمية عند تعيينه في منصبه رئيساً للأركان، حيث يشكل ذلك تجاوزاً للأعراف الراسخة في المؤسسة العسكرية التي تقضي بأن يجتاز رئيس الأركان منصبي قائد لأحد الجيوش أو قائد لأحد الأسلحة الميدانية.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الرئيس السيسي أطاح أهم جنرالات المجلس العسكري؛ باستثناء وزير الدفاع المحصّن دستورياً، على مدار الثلاث سنوات الماضية. ولهذا، فإن الأعراف والتقاليد العسكرية لم تكن مُقيدة له، وقد تم تجاوزها في مرات عديدة سابقة، فقد خضعت تاريخياً وبدرجة أكبر، للتوازنات بين قيادة الجيش ومؤسسة الرئاسة على مساحات النفوذ والهيمنة داخل الأجهزة الأمنية. يشكل قرار الرئيس جمال عبد الناصر في آذار من عام 1964، لفرض تعيين محمد فوزي، مثالاً على هذا القرار، وهو القادم من إدارة الكلية الحربية لرئاسة الأركان مباشرة، للحد من نفوذ عبد الحكيم عامر وسيطرته على الجيش والأجهزة الأمنية.
يتناول الطرح الثالث أن الإقالة ترجع إلى ترجيح خلافته لمنصب رئيس مجلس الوزراء، المهندس شريف إسماعيل، حيث يلوح قرب تقاعد الأخير لمرضه. ويبدو هذا التفسير منطقياً في حالة أن القرار كان مرتباً بشكل مسبق مع الفريق حجازي نفسه. لكن الأقرب إلى الصحة أن حجازي فوجئ مثلنا تماماً بقرار إقالته. نظراً إلى توازي القرار مع عودته من اجتماع رؤساء أركان الدول المحاربة للإرهاب، بدعوة مباشرة من نظيره الأميركي، وبحضور رؤساء أركان أغلب دول المنطقة، وفي مقدمتهم رئيس الأركان الإسرائيلي، الفريق غادي آيزنكوت. إلى جانب تزامن قرار الإقالة مع تنحية أربعة من قيادات «الداخلية» عن مناصبهم، فبدا القرار بذلك مهيناً لشخص الفريق حجازي، وظهر عدم علمه المسبق به، وأنه لم يكن يتوقعه.
يبدو أن ثمة أسباباً حقيقية ما زالت خافية عن كثيرين وراء قرار الإقالة، وأن الصندوق الأسود لأصحاب السلطة والسطوة ما زال مليئاً بأسرار وخبايا لم تعرف بعد. لكن يبدو أن التفسير الأكثر منطقية حتى الآن هو إعادة ترتيب بطيئة ومحسوبة لأضلاع مثلث القوى في النظام المصري، وهي المؤسستان العسكرية والأمنية ومؤسسة الرئاسة. يترافق ذلك مع سير السيسي على خطى قدوته الرئيس الأسبق، أنور السادات، في تغييرات متوالية ومتسارعة لقيادات الجيش، لفرض وانتزاع دوائر للنفوذ ومساحة أكبر لمؤسسة الرئاسة على حساب مؤسسة الجيش. إذ يتضح أن التوازن القائم بين أضلاع مثلث القوى وتقسيم العمل الذي جرى بعد «3 يوليو» عام 2013 لم يعد ملائماً. وتلوح ترتيبات وتوافقات لدوائر الحكم، بعيداً عن التراتبية الرسمية أو الممارسات المتأصلة. أخيراً لا ينبغي أن نغفل قرب ما يطلق عليه الاستحقاق الانتخابي المتعلق بمنصب رئيس الجمهورية. وفي هذا الإطار، نحن على شفا مواجهة شتاء ساخن يزيد أزمات السلطة ويعمّقها.}