تصاعدت مؤشرات التقارب المصري الإيراني، بعد عقود من حالة الجفاء التي طبعت العلاقة بين البلدين، خصوصاً في السنوات الأخيرة من حكم مبارك. ومن المثير أن هذا «التقارب» النسبي جاء بعد فترة من التوافق شبه الكامل بين القاهرة ودول الخليج عموماً والسعودية خصوصاً، ما مثل صدمة للرياض التي ساهمت بشكل جذري في تثبيت نظام السيسي بعد انقلاب الثالث من تموز.
وتصاعد هذه المؤشرات بعد تراجع الدعم المالي السعودي للنظام المصري دفع الكثيرين إلى تفسير موقف السيسي كردّ على تراجع الدعم، ومحاولة لاستدراج الدعم الاقتصادي الإيراني، وهو تفسير -وإن كان يمتلك مشروعية إلى حد ما- إلا أنه لا يكفي لتفسير موقف سياسي مركب وملتبس، يحتاج إلى قراءة أشد عمقاً في الدوافع والتداعيات.
فما هي أسباب «التقارب» المصري الإيراني في الملفات المشتعلة في المنطقة؟ وما هي دوافع الطرفين لهذا التقارب؟
مؤشرات التقارب
وبدأت مؤشرات التقارب المصري الإيراني تظهر بشكل خجول بعد انقلاب السيسي في 3 تموز 2013، حين لم يكن ممكناً في ذلك الوقت أن يظهر النظام المصري توجّهه نحو إيران، حتى لا يغضب دول الخليج الراعية للانقلاب؛ خصوصاً السعودية. 
كان المؤشر الأساسي في تلك المرحلة هو الموقف من الأزمة السورية، إذ تخلى النظام المصري عن خطاب الرئيس مرسي الداعم للثورة والرافض للتدخل الإيراني في سوريا، الذي بلغ ذروته في مهرجان «دعم ثورة السورية» في الخامس من حزيران 2013. 
ومارس نظام السيسي بعض المضايقات ضد اللاجئين السوريين في مصر، مثل فرض التأشيرات عليهم، ولكن الأهم من ذلك في هذا المجال كان إعلان متحدثين ومسؤولين مصريين أكثر من مرة أن مصير الأسد يجب أن يحدده الشعب السوري؛ وهو التعبير الدبلوماسي لرفض المقاربة السعودية التي تطالب برحيل الأسد، بما يتماهى عملياً مع موقف إيران بهذا الخصوص.
المواقف المصرية المتجهة نحو طهران بعيداً عن مواقف الرياض ظلت خجولة وغير رسمية في كثير من الأحيان، خصوصاً في فترة حكم الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، وتم التعبير عنها من خلال تصريحات لإعلاميين وصحف مقربة من نظام السيسي، إضافة لإجراءات دبلوماسية نحو التقارب مع حلفاء طهران مثل الحكومة العراقية ونظام الأسد.
إلا أن مؤشرات «التقارب» الإيراني المصري، تسارعت بوتيرة كبيرة بعد تسلم العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز لسلطاته في كانون الثاني/ 2015، إذ تحلل نظام السيسي شيئاً فشيئاً من الاعتبارات السياسية التي كانت توثر على قراراته بسبب الدعم الكبير الذي قدمته الرياض للانقلاب في عهد عبد الله بن عبد العزيز. 
وشكّل إطلاق السعودية لعملياتها في اليمن تحت اسم «عاصفة الحزم» منعطفاً مهماً في اقتراب الموقف المصري من موقف طهران، إذ امتنعت القاهرة عملياً عن تقديم أيّ دعم عملياتي أو حتى سياسي صريح يرقى لتطلعات السعودية، التي تعدّ نفسها صاحبة «الفضل» في تثبيت نظام السيسي.
ولكن المؤشر الأكثر أهمية على تقارب الموقفين المصري والإيراني كان تصويت المندوب المصري في مجلس الأمن لمشروع قرار روسي حول سوريا في التاسع من تشرين الأول الماضي، وهو التصويت الذي اعتبره مندوب السعودية في الأمم المتحدة «مؤلماً». 
التصويت المصري لروسيا كان الدافع، على ما يبدو، لقرار السعودية وقف شحنة من النفط كان من المقرر أن ترسل إلى مصر في تشرين الأول الماضي، وهو القرار الذي ردت عليه القاهرة بحملة إعلامية ضخمة، وصلت إلى حدّ مطالبة بعض مؤيدي السيسي بالتوجه إلى إيران للحصول على مساعدات منها كبديل من المساعدات السعودية.
دوافع الموقف المصري
ذهبت بعض التفسيرات للانزياح المصري نحو طهران إلى اعتباره جزءاً من مقاربة نظام السيسي للبحث عن داعم جديد بديل للسعودية؛ بعد أن تراجع دعم الرياض المالي في عهد الملك سلمان، ولكن تفسير موقف القاهرة يرتبط باعتبارات استراتيجية لا تتعلق بالمال أساسـاً، بل ترتبط برؤيتها لعلاقاتها الخارجية ولصراعاتها في الداخل أيضاً. ويتعلق الاعتبار الأول برؤية القاهرة لموقعها «قائدة» وشقيقة كبرى للدول العربية، وهي لذلك لا يمكن أن ترضى بأن تكون تابعة لدولة عربية أخرى، خصوصاً السعودية، التي نازعت مصر على موقع القيادة في السنوات الأولى لما بعد الاستقلال. 
وإذا كان نظام السيسي قد رضي بنوع من «التبعية» للرياض في بدايات حكمه -وإن على صعيد الشكليات- بسبب حجم الدعم المالي السعودي الضخم، فإن الدولة العميقة لا يمكن أن ترضى باستمرار هذا الوضع.
أما الاعتبار الثاني الذي يلعب دوراً محورياً في سياسة مصر التي تبدو أكثر قرباً لإيران، فيتمثل بموقف القاهرة من الثورات الشعبية التي بدأت بتونس في عام 2011. 
تعدّ القاهرة جميع الثورات الشعبية نوعاً من الفوضى ومحاولة لصناعة نظام عربي جديد ينهي النظام السياسي وطبقة المصالح القائمة، منذ تشكيل الدولة القطرية العربية بعد الاستقلال، ولذلك فهي تعدّ انتصار أي ثورة هزيمة لها وللمنظومة التي تمثلها. ويمكن هذا الاعتبار أن يفسر الموقف المصري من الأزمة السورية، إذ تقف القاهرة إلى حدّ ما في المعسكر الإيراني الذي يريد منع انتصار الثورة وسقوط نظام الأسد. وإذا كان الموقف المصري لا يُعبَّر عنه بدعم عسكري أو سياسي حادّ وواضح لنظام الأسد كما هو الحال بالنسبة إلى إيران، إلا أن المحصلة النهائية هي توافق المقاربة المصرية مع رؤية طهران التي تقوم على ثلاثة عناصر: رفض التدخل الخارجي وخصوصاً العسكري (باستثناء الإيراني بالطبع!)، مصير الأسد يجب أن يحدده الشعب السوري، واعتبار كل (أو معظم في الحالة المصرية) من يعارض النظام إرهابياً. 
أما الاعتبار الثالث في صناعة السياسة الخارجية المصرية التي تقترب أكثر فأكثر من إيران فهو العداء مع الحركات الإسلامية السنّية، خصوصاً تيار الإخوان المسلمين. 
هذا الاعتبار هو ما يمكن أن يفسر موقف القاهرة الأقرب لإيران تجاه الحرب في اليمن، إذ تعتقد الدولة المصرية العميقة أن هزيمة الحوثيين والدولة القديمة بقيادة الرئيس المخلوع علي صالح، تعني بالضرورة انتصار المعسكر الآخر الذي يشكل حزب الإصلاح القريب من الإخوان أحد أهم أضلاعه. 
لا تتخذ القاهرة هذا الموقف بهدف معارضة السعودية، ولكنها تعدّ انتصار المعسكر الذي يضم حزباً ينتمي إلى التيار الإخواني هزيمة لها، ولذلك فهي ترى نفسها أقرب إلى معسكر الحوثيين وحلفائهم، حتى لو أدى موقفها هذا إلى ضرب علاقاتها مع السعودية.
دوافع الموقف الإيراني
اتخذت إيران موقفاً مؤيداً لثورة يناير منذ بداياتها، واعتبرتها مظهراً من مظاهر «إلهام الثورة الإسلامية الإيرانية»، وسعت إلى تحسين علاقاتها مع مصر الجديدة، وخصوصاً في السنة التي «حكم» فيها الرئيس مرسي. لكن الرغبة الإيرانية تلك اصطدمت بموقف مرسي من الثورة السورية خصوصاً في الأسابيع الأخيرة قبل الإنقلاب، ما أدى إلى وقوف طهران مع الانقلاب من خلال دعم وسائل الإعلام التابعة لها لتحركات 30 يونيو وما تبعها، إضافة إلى الاعتراف السريع بنظام الانقلاب وإعلان الاستعداد الكامل للتعامل معه.
وعلى الرغم من ثقل التاريخ في العلاقات المصرية الإيرانية، إلا أن طهران سعت إلى التقارب مع نظام الانقلاب بشكل جادّ، وهو ما يمكن تفسيره بثلاثة عوامل استراتيجية.
أول هذه العوامل هو سوريا؛ حيث يمثل الملف السوري الآن المحدد الرئيس لعلاقات إيران وسياساتها الخارجية، ولذلك فهي مستعدة للتحالف مع «الشيطان» إذا كان سيتخذ موقفاً قريباً منها تجاه الأزمة السورية.
أما العامل الثاني في صناعة الموقف الإيراني تجاه التقارب مع مصر؛ فهو يرتبط برغبة طهران في إبعاد مصر عن السعودية، حيث إن أيّ تحسن في العلاقات الإيرانية المصرية سيكون بالضرورة على حساب علاقات القاهرة مع الرياض.
العامل الثالث، يرتبط بضعف الدولة المصرية. فعلى الرغم من حالة التنافس الاستراتيجي بين مصر وإيران، إلا أن حالة الضعف والسيولة التي تعيشها الدولة المصرية تفقدها موقعها منافساً «جدياً» لطهران، وهو ما شجع الأخيرة على التقارب مع دولة منهكة اقتصادياً وسياسياً وأمنياً لا تمثل خطراً استراتيجياً على الأقل في المرحلة الحالية.
في المحصلة، تبني إيران موقفها نحو التقارب مع مصر على أسس استراتيجية تتعلق بموقعها الإقليمي، بينما تسيطر صراعات النظام المصري مع خصومه الداخليين «الثورة- والإخوان» على قرارات استراتيجية بحجم التقارب مع إيران على حساب التمحور مع دول عربية أخرى مثل السعودية.