قطب العربي

حدثان متناقضان مرّ بهما نظام عبد الفتاح السيسي في يوم واحد، هما: الفرح الذي شهده استقبال العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، والحزن من قرار إيطاليا بطرد بعثة التحقيق المصرية الزائرة لروما، وسحب السفير الإيطالي من القاهرة، على خلفية مقتل الطالب خوليو ريجيني. 
أما الفرح باستقبال الملك سلمان، فقد كان سببه تعلق النظام المصري بما ينقذه من حالة التردي التي وصل إليها بعد أقل من ثلاث سنوات على انقلاب الثالث من تموز  2013، وقد وجد النظام في زيارة الملك سلمان طوق النجاة له، وتصور أنه سيتمكن بعصاه السحرية من أن يحيل مصر إلى جنة الله في الأرض ببعض التسهيلات المالية والبترولية. 
ولم يدخر نظام السيسي وسعاً في الحفاوة بالضيف، بما في ذلك اقتطاع جزيرتين من التراب المصري هما تيران وصنافير ومنحهما له مقابل تلك التسهيلات، وربما عربوناً لكفالة سعودية دائمة له، ضارباً عرض الحائط بنصوص دستور وضعه بنفسه، ورقصت له نساء وفتيات، وسهرت من أجله المقاهي والحانات، وقد نص هذا الدستور في مادته الأولى على (جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة، ولا ينزل عن شيء منها..) ونصت المادة 151: (.. ويجب دعوة الناخبين للاستفتاء على معاهدات الصلح والتحالف وما يتعلق بحقوق السيادة، ولا يتم التصديق عليها إلا بعد إعلان نتيجة الاستفتاء بالموافقة، وفي جميع الأحوال لا يجوز إبرام أي معاهدة تخالف أحكام الدستور، أو يترتب عليها التنازل عن جزء من إقليم الدولة). 
لم تكن تيران وصنافير أول تنازل للسيسي عن جزء من السيادة المصرية، بل سبقهما تنازله عن حقول غاز المتوسط لقبرص وإسرائيل، ووقع الاتفاقات دون عرضها على مجلس النواب أو عرضها للاستفتاء العام كما ينص دستوره، ولماذا يتعب نفسه باللجوء للاستفتاء العام وهو يعتبر نفسه الدستور؟ وارثاً هذا الفهم عن أسلافه من الحكام العسكريين فقد قال الرئيس الأسبق أنور السادات يوماً: «نحن من يصنع الدساتير»، وكأنهم يتشبّهون بأهل الجاهلية الذين يصنعون تماثيل آلهتهم من العجوة ثم يأكلونها عند الضرورة، وإذا غابت هذه المعاني عن السيسي ورجاله أو بمعنى آخر إذا قبل السيسي ورجاله أن يضعوا الدستور تحت أقدامهم فمن الخطر على الطرف السعودي أن يعقد اتفاقاً مع نظام هش فاقد للشرعية متجاهلاً إرادة الشعب المصري ودستوره، بينما هبت المملكة لمناصرة الشرعية في اليمن وجرّدت لها الجيوش ونظمت لها التحالفات.
وإذا كان السيسي قد استمرأ التنازل عن الأراضي والسيادة المصرية مقابل الحصول على دعم سياسي لإنقاذ حكمه الهش، فلا نستبعد الآن أن يتنازل لإيطاليا عن الإسكندرية أو دمياط أو مرسى مطروح، باعتبارها أقرب المحافظات المصرية للساحل الإيطالي، ثمناً لدم ريجيني الذي قتله رجاله في أجهزة الأمن، بعد أن عذبوه ببشاعة لا تزال ظاهرة على جسده، ومن بينها آثار المسامير وسونكي السلاح، نتيجة فهمهم الخاطئ أنه كان جاسوساً.
كنت شخصياً أتوقع أن يتم حل مشكلة ريجيني بصفقة تجارية كبيرة مع إيطاليا، على غرار الصفقات التي تمت مع روسيا وفرنسا لكسب دعمهما السياسي، وكنت أتوقع أن الحكومة الإيطالية يمكن أن تتجاوب مع ذلك، خاصة أن إيطاليا هي الشريك التجاري الأول لمصر في أوروبا. 
ويمكن الحكومة الإيطالية أن تحقق مكاسب سياسية تبقي بها على تحالفها الحزبي الحاكم عبر صفقات بمليارات اليوروهات مع شركات مثل فيات وإيني، وبعض صفقات السلاح أيضاً، لكن حالة الغضب الشعبي العارم في إيطاليا بددت تلك الشكوك ولو مرحلياً، حيث تجاوبت معها الحكومة فطردت وفد السيسي القضائي الذي حمل بضع آلاف من قصاصات مكتوبة باللغة العربية، ولا قيمة لها في التحقيقات، كما سحبت إيطاليا سفيرها من مصر احتجاجاً على عدم تعاون سلطة السيسي معها بالقدر المناسب.
لم يجد السيسي من يردعه حين تنازل عن حقول الغاز لإسرائيل وقبرص، وأصدر قراراً في 10 أيلول 2014 بالموافقة على اتفاقية إطارية وقعت عقب الانقلاب بشهور قليلة، وكانت قبرص وإسرائيل قامتا بترسيم حدودهما البحرية عام 2010، وتقاسم حقول الغاز في غياب الدولة المصرية في عهد المخلوع حسني مبارك. 
وبحسب خبراء الملاحة البحرية فإن الحقلين الموجودين في البحر المتوسط هما ملك لمصر ويقعان في المياه الإقليمية لمصر، أحدهما سرقته إسرائيل والثاني سرقته قبرص، والغريب أن دولة العسكر وقعت مع إسرائيل عقداً لاستيراد الغاز المسروق من مصر. 
وتجري السلطات المصرية مباحثات مع قبرص لاستيراد الغاز أيضاً من حقلنا المسروق، حيث ذكرت صحيفة سايبروس ميل القبرصية في موقعها الإلكتروني أن نيقوسيا والقاهرة ستباشران مباحثات حول صفقة لشراء مصر الغاز الطبيعي القبرصي، وذلك بعد ظهور نتائج أعمال التنقيب التي تقوم بها شركتا إيني الإيطالية وكوغاس الكورية الجنوبية في المياه الإقليمية القبرصية.
وكان التنازل الأخطر للسيسي في الحقوق المصرية هو المتعلق بالموافقة على بناء سد النهضة الإثيوبي، والموافقة بالتالي على قضم حصة كبيرة من حقوق مصر المائية التي ضمنتها اتفاقيات دولية منذ القرن الماضي، كذلك هناك مخاوف من تنازل السيسي عن أجزاء من سيناء لتكون وطناً بديلاً للفلسطينيين في إطار خطة يتبناها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وتلقى قبولاً إقليمياً ودولياً بعد تعثر حل الدولتين.
وهكذا يتضح أن استمرار وبقاء حكم الانقلاب سيكلف مصر كثيراً من التنازلات عن حقوقها وسيادتها وأرضها ثمناً لبقاء الطفرة الحاكمة، وأن الحفاظ على تلك السيادة وتلك الحقوق يتطلب التخلص سريعاً من هذا الحكم الذي أصبح تهديداً حقيقياً للأمن القومي لمصر.